كان غياب الأفلام الوثائقية التي تتطرق إلى أحداث كبرى عنصرا سلبيا لأن هذا النوع من الأعمال الذي يعتمد على المعلومات والوثائق بدأ يظهر وينتشر على نطاق كبير وظل بعيدا عن مصر، حيث كان البعض من المخرجين والمنتجين يكتفون باجتهادات في النطاق السينمائي، فعندما قدم الفنان الراحل أحمد زكي فيلمي “ناصر 56″ و”السادات” اختار زاوية محددة يصلح التعامل معها فنيا، ولم يزعم أنه يقوم بتأريخ أو تقديم معلومات غير مطروقة. وأخذ شكل الأفلام الوثائقية المتقنة يظهر في مصر مؤخرا بعد أن زاد اللغط تجاه بعض الأحداث السياسية، فأنشأت الشركة المتحدة المالكة لعدد من القنوات الفضائية والصحف والمواقع الإلكترونية وحدة علمية للأفلام الوثائقية مهمتها اختيار مجموعة من التطورات المهمة في التاريخ المصري الحديث وإعادة روايتها بمنظور مهني. زيارة جديدة إلى التاريخ قدمت الوحدة أخيرا فيلم “العدوان الثلاثي” المكون من جزأين بهدف تسليط الضوء على حدث مهم شهدته مصر في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، ولعب دورا مهما في تاريخ المنطقة، وهو الخاص بالعدوان الثلاثي الذي قامت به إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على مصر في يوليو 1956. واختير طاقم العمل بعناية لأداء مهمة استغرقت أكثر من عام، إعدادا للمادة العلمية وتصويرا ومونتاجا وتحضيرا لكل ما يلزم من تجهيزات فنية ليكون العمل لائقا، وهو من إخراج أحمد فؤادالدين وإعداد الحسين يحيى ومدير التصوير بيشوى عاطف ومونتاج هيثم الجابرى ومحمد سعيد. ◙ تقسيم الأدوار في العمل بين المادة الفيلمية الحية والتحليل والوثائق لعب دورا مهما في تقريب الصورة إلى المشاهد وتجاوز الاهتمام بالعمل حدود النخبة التي يمكن أن تكون شغوفة بهذه النوعية من الأفلام، وجاءت ردود الفعل بعد عرضه من قطاعات متعددة مرحبة بالعمل، خاصة أنه لم يلجأ إلى تمجيد أحد أو تعمد تصحيح صورة خاطئة، فالسلاسة والاتقان والجودة التي رافقته حققت له نجاحا مبهرا، وفتحت الطريق أمام إمكانية تناول قضايا أخرى يحتاج الإلمام بها إلى وقت وقراءة عميقة، بينما لخص فيلم “العدوان الثلاثي” حدثا كبيرا في حوالي ساعتين يخرج منهما المشاهد وكأنه عاش الفترة التي يدور حولها. وتبدو مسألة إعادة تقديم التاريخ من خلال الأفلام الوثائقية جذابة، خاصة أن المعلومات بطل مهم في المعالجة، ما يقلل من التدخلات الخارجية في لي أعناق العمل، وفيلم “العدوان الثلاثي” تدارك الوقوع في خطأ الاستسهال واستعان بعدد من المتخصصين من داخل مصر وخارجها، ما أسهم في خروج موقف تاريخي ملحمي بإتقان. وتناول الجزء الأول من الفيلم مرحلة ما قبل العدوان بداية من عام 1951 وحتى قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس الذي كان مقدمة للعدوان الثلاثي، وتطرق الجزء الثاني إلى تطورات الحرب وجهود الدبلوماسية المصرية التي حققت انتصارا لافتا حوّل الخسارة العسكرية إلى مكاسب سياسية. وعرضت بعض الفضائيات المصرية الفيلم وخصصت له أوقاتا حيوية لشد انتباه الجمهور إليه، وضمان توصيل رسالته السياسية إلى شريحة كبيرة منه والخاصة بقوة الإرادة والتحدي في مواجهة القوى الخارجية، والتي يمكن فهمها على وجوه مختلفة. ◙ كانت رسالة الفيلم المصري المركزية حريصة على توصيل فكرته، وهي أن العدوان انتهى بفضيحة للدول الثلاث، وأن الرئيس جمال عبدالناصر حصل على نصر سياسي كبير وتطرق الفيلم الذي استضاف مجموعة من الخبراء والمتخصصين والعسكريين والسياسيين من مصر وبريطانيا إلى فترة انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتصار الحلفاء على دول المحور، ومساندة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق للفريق الأول للتغلب على ألمانيا وحلفائها، ما يعني إعادة ترتيب النظام الدولي بناء على نتائج الحرب العالمية الثانية التي بدأت بريطانيا تشعر بعدها بتراجع نفوذها. وقال سكوت لوكاس أستاذ السياسة الدولية بجامعة برمينغهام، والذي كان عنصرا مهما في أحداث الفيلم بما قدمه من معلومات وتحليلات، إنه بمجرد قيام الفرنسيين بزرع بذرة الحرب في عقل أنتوني إيدن (رئيس وزراء بريطانيا) بدأت تختمر الفكرة، حيث أقنعته بضرورة ملاحقة الرئيس المصري جمال عبدالناصر بغض النظر عن نتيجة المحادثات السياسية التي كانت تجري في الأمم المتحدة لحل أزمة قناة السويس. وعندما تبلورت ملامح فكرة الحرب لدى الدول الثلاث (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) قامت الأولى بتنفيذ هجومها على منطقة سيناء، وأصدر البلدان الآخران إنذارًا بوقفها وانسحاب الجيشين المصري والإسرائيلي إلى مسافة عشرة كيلومترات من ضفتي قناة السويس، وفقدان مصر لسيطرتها على ممرها الرابط بين البحرين الأحمر والمتوسط. وأدى رفض الرئيس عبدالناصر لأمر الانسحاب إلى قيام القوات البريطانية والفرنسية بإنزال العديد من جنود المظلات في منطقة قناة السويس التي تضم ثلاث محافظات هي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، ومع ذلك لم ينجح العدوان الثلاثي في محاصرة الجيش المصري بسبب انسحاب قطاعاته. وكل هذه الأحداث أراد الفيلم الوثائقي الإشارة بها إلى حجم المؤامرة التي حيكت ضد مصر في ذلك الوقت، والطريقة التي تعامل بها المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه، حيث تفاوتت التقديرات وانقلبت بعض المواقف رأسا على عقب، واستغلها آخرون كوسيلة لتكريس النفوذ والحد من استكبار لندن التي لم تجد سوى الحرب لكسر أنف عبدالناصر بعد قرار تأميم قناة السويس وبدء العد التدريجي لخروج بريطانيا. وساعد القبض على بعض الخيوط الرئيسية في تسهيل مهمة الفيلم، والاعتماد على المشاهد الحية والتفسيرات المصاحبة لها مع الاستعانة بالخرائط من العوامل التي أسهمت في تمرير رسالة الفيلم، وهي أن رواية الأحداث لا تتوقف عند ما يقدمه المنتصرون، فحضور المهنية كفيل بدحض أخطاء يمكن اللجوء إليها وتكرارها. فن السرد والتحليل لعب تقسيم الأدوار بين المادة الفيلمية الحية والتحليل دورا مهما في تقريب الصورة إلى المشاهد، فقد أوضح الفيلم على لسان الباحث أحمد يوسف أحمد، أحد ضيوفه من المتخصصين في العلوم السياسية، أن الرئيس عبدالناصر لم يغب عن ذهنه أن قرار تأميم قناة السويس ضربة قاصمة للمصالح الغربية، وكان معنيا بدرجة كبيرة بدراسة إمكانية الرد الغربي قبل الإقدام على قرار التأميم، وطريقة الرد المصري على ذلك، بمعنى لم يكن الرد مفاجئا له، لكن ربما تكون الصلافة التي لجأت إليها الدول الثلاث هي المباغتة. وقال الباحث داني ستيد، مؤلف كتاب الاستراتيجية والاستخبارات البريطانية في أزمة السويس، بعد تأميم القناة تحركت فرنسا وبريطانيا لإحراز نصر دبلوماسي وتم عقد مؤتمر مستخدمي قناة السويس في لندن في محاولة لإقناع العالم بأن هذا الممر المائي من الأهمية بحيث لا يمكن أن تمتلكه مصر، وهي الإشارة التي تكشف إلى أي درجة كانت هناك مؤامرة مكتملة الأركان من دون أن يقول الفيلم ذلك بصورة مباشرة. وأشار اللواء أركان حرب أحمد كامل، وهو متحدث رئيسي في الفيلم، إلى أن الجانب البريطاني قام بالتجهيز لعملية عسكرية ضد مصر، وبدأ فرض تدويل للإشراف على قناة السويس، وتم فرض بعض الشروط التي رفضتها القاهرة. ◙ الفيلم لم يلجأ إلى تمجيد أحد أو تصحيح صورة خاطئة، فالسلاسة والإتقان اللذان رافقاه حققا له نجاحا مبهرا وحرص الفيلم على تسليط الضوء على موقف الاتحاد السوفييتي الذي كان حاسما عندما وجه إنذارًا بضرب كل من لندن وباريس وواشنطن وتل أبيب بالصواريخ النووية، وهو ما دفع الولايات بريطانيا وفرنسا إلى القبول بالانسحاب الفوري من الأراضي المصرية، وتأييد الولايات المتحدة لهذه الخطوة، حيث تأكدت أن العدوان الثلاثي سوف يكون له المزيد من التداعيات السلبية على الساحة الدولية. وكانت رسالة الفيلم المصري المركزية حريصة على توصيل فكرته، وهي أن العدوان انتهى بفضيحة للدول الثلاث، وأن الرئيس جمال عبدالناصر حصل على نصر سياسي كبير على الرغم من أن الحرب أدت إلى نشر قوات طوارئ دولية في سيناء. ودعم الفيلم منطقه بكتابات مؤرخين ومحللين كبار عن حرب السويس، وعرض لأول مرة وثائق من الأرشيف البريطاني، وتطرق إلى تفاصيل عسكرية مهمة بشأن الخطة “كورتيدج” أو عملية “عقدة الحبل” وكانت ستتواجه فيها بريطانيا مع إسرائيل، وتم تعزيز الرواية بالوثائق التي عرضها الفيلم المصري لأول مرة. وتطرق فيلم “العدوان الثلاثي” إلى جانب معتبر في مجال التحليل النفسي للرئيس عبدالناصر في أثناء إدارة المعركة، وأنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا، مقدما وجبة دسمة من المعلومات والوثائق وتحليلها بطريقة علمية.
مشاركة :