الفيلم الوثائقيّ "Perpetual Planet Heroes of the Oceans" (كوكب أبديّ: أبطال المحيطات) الذي أنتج 2021 فيلم بديع. نفس المشاهد ستنازعه طوال لقطات الفيلم بين الجمال الذي يطالعه وبين ما تعرضه لقطات الجمال الآسر نفسها من مآسٍ ومستقبل مظلم. فيا لها من براعة أنْ يعبر صانع الفيلم نعومي أوستن عن الإظلام بالإنارة، وعن الإنذار بالشُّؤم من ثنايا لقطات متتالية لا تبعث في النفس إلا الطمأنينة والارتياح. الفيلم الذي يمتد لاثنتَيْن وخمسين دقيقةً فقط ويعرض لمأساة الكوكب الأرضي جاء قطعة فنية خالصة اشترك في إخراجه لنا العديد من الفنيين. منهم أحد عشر مدير تصوير، ومثل عددهم في اختصاص التصوير الطائر والثابت (هذا العدد الضخم لتعدد مناطق التصوير)، مع مونتاج من دارين جونسيس، وستة من فنيِّي الصوت، يقودهم مهندس الصوت الرئيسي توم فوستر، مع الموسيقى التي أُديرت بمهارة وألفت للفيلم خصيصًا من قبل فريق رئيسه انزي روزمان. مع التصوير في ثمانية مواقع حول العالَم، واشتراك العديد من العلماء في مجالات متقاربة، وكثير من المدافعين عن البيئة كل هذه العناصر جاءت مع صوت المعلِّقة الصوتية للفيلم سيلفيا إيرل. وهي سيدة مشهورة في مجالها، ولدت في الثلاثينيات من القرن الماضي، مستكشفة، وصاحبة جهود ضخمة في الدفاع عن البيئة علميا واجتماعيا من خلال كتابة الكُتب والاشتراك في إخراج الأفلام الوثائقية، وإنشاء المنظمات الاستكشافية. ولنسأل أنفسنا بعد الاطلاع على كلّ هذه الجهود المتكاتفة لإخراج عمل فيلمي عن مسئوليتنا في تجاهل هذه الأفلام المتقنة النافعة الممتعة! يتناول الفيلم المحنة التي يعانيها النظام البيئيّ للكرة الأرضية من تلوث ضخم، وانبعاثات حرارية أدت إلى تغيُّر مناخ الكوكب كاملا، وكذلك يسلط الضوء على تهديد النشاط البشريّ في الصيد، وأثر كل هذه العوامل على المحيطات وكائناتها، ومعدلات انقراضها المتسارعة. كما يتناول جهود علماء كثيرين في منع كارثة انهيار النظام البيئي ومحاولة الحفاظ على البحار والمحيطات وكائناتها والتي تعد الداعم الأعظم للحياة على اليابسة. اعتمد بناء الفيلم على عدد من الأساسات الفنية ولعل أبرزها استخدام التعليق الصوتي في توجيه المشاهد، وعرض المشكلات. وقد امتاز صوت سيلفيا إيرل بالرزانة والهدوء والعُمق مما أضفى على المعاني هذا الحس البشري النابض كما ساعد على هذا أنها تعبر عن ذاتها فلسنا هنا أمام فنان صوتي تم استقدامه ليعبر، بل هي نفسها صاحبة الجهود تعبر لنا، بما تحمله من وعي ذاتي عميق وإحساس طبيعي بما تقول. ولا يفوت تأثير هذا على تجربة المشاهدة فكما قالت العرب: ليستْ النائحة الثَّكلَى كالنائحة المستأجرة. وقد جاوَرَ التعليق الصوتي في البناء ظهور سيلفيا نفسها طوال الفيلم وحديثها، والحديث المباشر للكاميرا من قِبَل المشتركين، وإجابات بعضهم من لقاءات ولقطات أرشيفية وأخرى مصنوعة حاسوبيا، هكذا استطاع صانع الفيلم أن يقدِّم لنا موضوعه. وقد اعتمدت صورة الفيلم على السابق بجوار المتوقع وهو عشرات من اللقطات الخلَّابة للطبيعة التي يصورون فيها، مع لقطات للخراب الذي أصاب تلك الطبيعة. لكن وجهة نظر قد نستشفُّها إذا دققنا في أسلوب إخراج الفيلم وهي تركيز الفيلم على لقطات شديدة الاتساع لمظاهر "الطبيعة" المختلفة يظهر فيها "الإنسان" ضئيلًا كلَّ الضآلة. ومن تكرار النمط نفسه في عديد المشاهد نستطيع التبين أنها مقصودة وكأن الفيلم وصُناعه يقولون: انظروا إلى هذا الضئيل المحدود استطاع أنْ يأتي بالخراب على كل هذا الكون الفسيح من حوله! كما أن هناك لقطة تستحقُّ التنويه نرى قبلها سيلفيا في لقطات أرشيفية لذكريات من شبابها عن سبب شغفها بمجال المحيطات وجمال ذلك الماضي. ثم تتحوَّل إلى لقطة من الحاضر مع سيلفيا نفسها وهي غائصة في المياه، وتصوير يتحرَّك دائريا ليرينا حاضر الشعاب المرجانية وقد تصحرت بعد نماء وازدهار. والجمال هنا يكمن في التحرك دائريا بالكاميرا من وجه سيلفيا وماضيها إلى ما يحيط بها من واقع مدمر. كما اعتمد الفيلم في بثّ معلوماته على توزيع المشكلات بتوزيع الأماكن، وعلى جُمَل معبرة تلخِّص ما جرى. فيبدأ بنا من ولاية فلوريدا في أميركا، في شاطئ كلير ووتر حيث نرى سيلفيا وهي تروي حادثة في شبابها حين غاصت في البحر لترى السمك، فإذا بسمكة منها تقف محدقة في عينيها، وكيف كان هذا سببًا في اهتمامها بالمحيط وكائناته. ونسمع بصوتها جملتين: "كُنا نعتقد أن المحيط شاسع بحيث لا يمكن للإنسان إفساده"، و"نحن ندخل في انقراض جماعي، ونفقد الكائنات بمعدل ينذر بالخطر". مرورًا بالحيد المرجاني العظيم، في أستراليا الذي انتهت فيه مرحلة التعريف بالبطلة إلى التعريف بالمشكلات. والكشف عن أن عوامل كثيرة جعلتْ مياه البحر أكثر دفئًا، وأشد حمضية، أخفض في نسب الأكسجين مما خنق الحياة لكائناتها، وعرضها للانقراض أسرع. وكيف استطاعوا أنْ يزرعوا قُصاصات الشعاب المرجانية فيما يشبه حضَّانات مرجانية، في محاولة للحدّ من تقلص مساحاتها. مرورا بالقطب الجنوبي ليطلعونا على أن التلوث الصوتي بالضوضاء التي تحدثها سفن الشحن وعابرات القارات، ونشاطات استخراج الوقود الأُحفوري أثَّر بشدة على قُدرة الكائنات المحيطية على التواصل صوتيا حيث هي طريقة التواصل الوحيدة في ظلّ ظلام تامّ. ومحاولة العلماء استحداث آليات لسماع صوت الكائنات ودراسته من خلال تكنولوجيا "ليدو" وهي اختصار لكلمات "استمع إلى أعماق المحيط". مرورا بخليج القرش في أستراليا لنتعرف على سمكة القرش الحُوتي، وتكنولوجيا مراقبتها للحدّ من انقراض هذا النوع العملاق. ونستمع إلى جُمل: "الصيد الصناعي قضى على 90% من أنواع حيوانات المحيط"، و"نحن نعرف عن المحيطات أقل من معرفتنا عن الفضاء"، "وضعنا خرائط لـ 15% فقط من المحيط". إلى وصولنا لمضيق خليج تشيلي، منطقة باتاغونيا التي تمتاز بمئات الأنواع من المرجان التي تعيش فيها وحدها، ونقابل عالمة تعرض كتابها الذي قضت فيه عشر سنوات، واعتمد على جهود علماء من خمس وعشرين دولة وتروي لنا مظاهر التوحُّش في الصيد حيث وجدت ثلاث مزارع للسالمون عام 2003 حينما قدمت، إلى وجود العديد منها الآن في كل مكان. ونسمع جملة محزنة "عالميا نفقد أحد الأنواع كل عشر دقائق تقريبًا". كما نرى ملمحًا فنيا يتكرر في اللقطات الواسعة ثُم الهبوط إلى قاع البحر بقطع مونتاجي ليحاكي عمليات الاستكشاف التي تسمعها آذانُنا. وتحدِّثنا سيلفيا عن "الإظلام المدهش" في المحيط، ونحن نرى كائنات لا توصف إلا بالدهشة في عُمق ظلمة المحيط. ونرى في موريا، في بولينيزيا الفرنسية صناعة أحد المستكشفين لكبسولة يقدر بها أنْ يظل أيامًا تحت الأعماق، بلا ضوضاء ولا تلوث. كما نرى ملمحًا فنيا وهي لقطة بطيئة لقدمَيْ هذا المستكشف وهما تستقران على أرض المحيط؛ دلالة على الأمل في العملية الاستكشافية وفي جهود العلماء واستطاعة التغيير للأفضل. وفي مدينة تومبيس، في بيرو نجد جهودهم في محاربة صيد سمكة شيطان البحر بشكلها الجميل الفريد، وكذلك في جزر سيشل نرى سيلفيا مع رئيس سيشل تخبره عن قدومها هناك عام 1964 حيث لمْ يكُن ساعتها الناس بحاجة إلى برامج لحماية البيئة، وهذا يكشف لنا مدى سرعة تدهور الطبيعة من حولنا في خلال عقود قليلة هي جزء من حياة شخص منا. وتنهي سيلفيا الفيلم بجُملة "مع كل نَفَس نتنفَّسه، ومع كل شربة ماء نحن متصلون بالمحيط"، مع دعوتها لتكاتف الجميع بالتوعية بالقضية البيئية في أوساط التعليم والصداقة وغيرهما. لعل هذا الفيلم البديع فنيا، ذا الموسيقى التي استطاعت أنْ تصاحب كلّ جُملة تأثيرا في نفوس المشاهدين، ينبهنا إلى أهمية العلم والتعليم وجهودهما المضنية في كل مضمار، وإلى الانتباه إلى جنس الأفلام الوثائقية عمومًا متعة وإفادة، وأخيرا إلى سُنة كونية أن طمع الإنسان يأتي بالفساد المبين فبما كسبتْ أيدينا ظهر الفساد في البر والبحر. ولعلنا ننتبه إلى كلّ هذه النواحي.
مشاركة :