كما أعطيناكم أخذنا وما زلتم وما زلنا

  • 11/21/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

"لبيروت من قلبي سلام لبيروت… مجد من رماد لبيروت… من دم لولد حمل فوق يدها… أطفأت مدينتي قنديلها… أغلقت بابها… أصبحت في المسا وحدها… وحدها وليل… لبيروت… من قلبي سلام لبيروت… وقبل للبحر والبيوت… لصخرة كأنها وجه بحار قديم… أنت لي… أنت لي… آه عانقيني أنت لي…. رايتي وحجر الغد وموج سفر…. أزهرت جراح شعبي أزهرت… دمعة الأمهات… أنت بيروت لي… آه عانقيني…". هذا مقطع من قصيدة الراحل جوزيف حرب التي كنت أستمع إليها بصوت سفيرة الغناء العربي فيروز وأنا في الغربة، كم كان قلبي ينفطر حزنا وألما على ما فعلته الحرب الأهلية بلبنان الجميل الذي ترعرعت في ربوعه وشربت مع مائه مجد العروبة، كما تزينت لغتي بأحرف الأبجدية، لبنان الذي غرس في روحي عبق التاريخ حتى تسرب إلى كل ذرة من كياني، لبنان الذي علمني أرزه الشموخ كما علمني شعبه كيف تُتوج المحبة بأكاليل من الغار، وكيف يُزين العطاء بأطواق من الجوري، وكيف من قلب المحن تنتفض العنقاء من تحت الرماد وتفرد أجنحتها لتسمو في الفضاء وتبني حلمها من جديد. فعلى الرغم من أن جوزيف حرب كتبها عام 83، أشعر اليوم وكأنه يتحدث عن العالم العربي من المحيط إلى الخليج، فكلما ضربت يد الإرهاب الغادرة إحدى المدن العربية أشعر وكأن جزءا مني يُغتال.. يُدمر، وكأن كل أشواك العالم تُقتلع من داخلي بيد سوداء همجية، تصرخ روحي من الفجيعة والألم، ويئن قلبي من ثقل كل قطرة حارقة من أدمعي.. مع كل البيوت التي هُجرت، مع كل الشوارع التي أُفرغت، مع كل المدن التي أطفأت قناديلها وأغلقت أبوابها وبين أمواج الموت والرعب تبحر وحيدة، كُسرت رايتنا وكل فجر يشهد لنا عذابا جديدا! وفوق كل هذا المطلوب منا أن نعتذر! بربكم عن ماذا يريدوننا أن نعتذر؟ عن المساجد التي دُمرت، عن الكنائس التي نهبت ثم أُحرقت، عن الرهبان، عن شيوخ المساجد الذين قتلوا بأبشع الطرق أو الذين منهم اختطفوا، عن الأحياء التي تحولت إلى خراب! عن ماذا يريدوننا أن نعتذر... عمن قتلوا وهم راكعون ساجدون بين أيدي الرحمن، عمن جُزت رقابهم أم من سحلت جثثهم خلف المركبات، أم من قذف بهم في الأفران وهم أحياء؟ هل أعتذر عن تلاميذ المدارس أم طلبة الجامعات الذين ارتقوا إلى السماء وهم على مقاعد العلم والعلماء، أم الآمنين في الأسواق في الطرقات في الحدائق، من تناثرت أشلاؤهم من شظايا أدمنت دماء أجسادهم فسالت وطهرت كل حائط، كل شارع، كل نافذة، كل باب وكل بيت! هل أعتذر عن أُمٍ فجعت بوليدها، أم عن أب يعانق جسد ابنته المضرج بالدماء يرفض فراقها لتدفن، أم هل أعتذر عن فلاح لا يستطيع أن يصل إلى أرضه ويشهد إحراق زرعه وشجره وجهد أجداده، هذا إن لم يحنّ عليه الهمج ويسرقون حصاده ويتركون أرضه؟! هل أعتذر عمن بيعت سبية بسيجارة، أم عن أخواتها اللائي رمين أنفسهم للموت خوفا على شرفهن من الضياع تحت أنياب الضباع البشرية؟! هل أعتذر عن أطفال خُطفوا من أهاليهم لتغتصب براءتهم ويحولون إلى وحوش بشرية؟! هل أعتذر عن كل من خرج ولم يعد لا يعرف أهله إن كان ميتا أم حيا؟ هل أعتذر عمن هُجّروا ومن نَزحوا هربا من الموت فماتوا وهم أحياء ألف مرة؟ ألا يرون... ألا يدركون... ألا...! ولكن كيف سيشعرون؟! فدماؤنا، أجسادنا، زرعنا، تاريخنا لا يزن عندهم جناح بعوضة! دماؤنا تنزف، بيوتنا، شوارعنا، حضارتنا تدمر، ثرواتنا تنهب وتاريخنا يفجر حجرا بعد حجر، لا إدانة ولا استنكار مجرد قلق، بل بكل وقاحة يطالبوننا بضبط النفس! ومع أول نقطة دماء سقطت على أراضيهم هاجوا وماجوا وهبوا هبة رجل واحد، بلا قلق بلا ضبط بلا مخالفة! استيقظ ماردهم من السبات الشتوي محاسبا ومطالبا إيانا بالاعتذار! إلى من يريد منا أن نعتذر نقول: دماؤكم سالت معها دماؤنا بنفس المكان وبنفس الأيادي السوداء، الفارق أن دماءكم أدمت قلوبنا وتعاطفنا وتضامنا مدنا وأفرادا ومجموعات، بينما دماؤنا التي سالت على أراضينا لم تحرك بكم ساكنا، وهنا أعيد وأكرر خطابي هذا لمن يريدنا أن نعتذر، لم نر أعلام بلادنا تُرفع تضامنا على معالمكم الحضارية بعد كل تفجير أو مجزرة! لم تُسخّر وسائل التواصل الاجتماعي، ويضع أصحابها التسهيلات لكل من يريد أن يتضامن، حتى ولو مع فجيعة واحدة مما تعرضنا له! اعتبرناكم إخوة في الإنسانية، بينما اعتبرتمونا مواطنين درجة ثالثة لهذه الأرض التي نعيش عليها جميعا، كيف غاب عنكم أنها لنا كما هي لكم؟! وهل تعلمون أن مأساتكم هزتنا مرتين؛ مرة حزنا وأسى عليكم ومرة خوفا على أبناء لنا يعيشون بينكم في رعب، لا يعرفون من أين قد تأتيهم الضربة، من الجهلة والعنصريين منكم أم من الإرهابيين الذين لا يفرقون بيننا وبينكم! من يعتذر لمن؟ من يحاسب من؟ إن أردتم أتينا بصفحات التاريخ وليبدأ الحساب! لكن أليس الأجدى أن نتذكر بأنه كما أعطيناكم أخذنا وما زلتم وما زلنا، أليس الأجدى أن نبدأ من الإيجابيات ونجعلها أرضية مشتركة ننطلق منها، ولتعلموا أن ما ضربكم ضربنا وما أصابكم أصابنا، فليس هذا وقت المحاسبة ولا وقت الاعتذار؛ إن فعلنا غرقنا في جدلية لن تنتهي! هذا وقت التضامن والمشاركة في مواجهة وحش شيطاني سحر أبناء لنا وأبناء لكم وتغلغل في مدننا كما في مدنكم، وإن لم نقض عليه من جذوره أنهانا وأنهاكم!

مشاركة :