في سلسلة متابعات تلفزيونية أمكَن سماع المتحدثين يتنقلون بسهولة بين سيل من الأوصاف للوضع في لبنان: أمام منعطف خطير، أمام مفترق طرق، على حافة الهاوية، فوق بركان... وكان النقاش حول ما لم يُتفق على تسميتها بـ«الورقة» أم «الأفكار» أم «المبادرة» التي حملها وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، فراوحت الاستنتاجات الأكثر تردداً بين القول، إن مسعاه يمثل «الإنذار الأخير» أو «الفرصة الأخيرة». ثم ماذا بعدهما؟ تبدو كل إشارة الى لبنان، في هذه الأيام، تأبينية غارقة في النهايات، لكن أحداً لم يستطع المضي أبعد من رئيس البلاد حين رمى لفظ «جهنم» ذات دردشة صحافية. فما عساه يكون الأسوأ أو الأقسى، ماذا بعد جهنم؟ الأرجح أنه الواقع، كما هو معاش، بما فيه من غالبين ومغلوبين تحت سقف واحد، وفي مكان متأرجح ما بين الدنيا والآخرة. عكس اللبنانيون المقولة إذ يعيشون فاقة بعد عز، ويكتشفون في تناوب الاحتلالات عليهم الفوارق الكارثية بين السوري/ الأسدي، والإسرائيلي، والإيراني. ثم كان تفنيد أفكار «الورقة» الكويتية، مرفقاً من أبواق «الممانعة» وذبابها الإلكتروني بتفنيد «دوافع» الكويت وأهدافها، إذ إن عقلهم المريض يتلقى كل شيء على أنه «مؤامرة» على «سلاح المقاومة»، على رغم أنه لم يعد هناك «مقاومة» لكن بقي السلاح، وهو لم يُستخدم منذ 2006 إلا في خدمة نظام الملالي ضد اللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين، كذلك ضد السعودية والإمارات. أصبح مجرد طلب تنفيذ القرار الدولي 1559 يدق نواقيس الخطر في رؤوس قادة «حزب إيران/ حزب الله»، لأنه يطلب من الدولة اللبنانية نزع سلاحه. الأمم المتحدة أبقت القرار على جدول مراجعاتها، وكل البيانات الدولية والعربية تذكر به دورياً، غير أن إيران و«حزبها» يعتقدان أنهما أخرجاه من التداول، بدليل أنهما فرضا على الحكومات اللبنانية منذ صدور القرار في 2004 صيغة تقول، إن لبنان «يلتزم القرار ولا يسعه تطبيقه نظراً الى صعوبة الظروف المحيطة به، ويحتاج الى وقت، فضلاً عن تداعياته على الداخل»، وهي الصيغة نفسها التي أعيد تنقيحها لتصبح أن لبنان «يحترم» القرارات الدولية و«لا يمكنه تنفيذها». أي أنه لا يلتزمها. كان هناك دائماً «تفهم» عربي لتحفظ لبنان عن التطرق الى ملف سلاح هذا «حزب الله»، وبضغط من نظام دمشق روعي هذا السلاح في صوغ وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ«اتفاق الطائف» (1989) الذي انبثق منه الدستور اللبناني الحالي، باعتبار أن «الحزب» كان يخوض مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، ولم توضع ضوابط للسلاح ومستقبله بعد تحرير الجنوب. ثم تولّى نظام دمشق التلاعب بتنفيذ «اتفاق الطائف»، وعبث بـ«الوفاق» والعلاقات بين المكونات. وما لبث ورثته الإيرانيون وأتباعهم أن أكملوا نهجه وأضافوا الى التخريب، بل ذهبوا بعيداً في التهديد والترهيب والإجرام ودوس كل القوانين وزعزعة «الميثاقية» التي تعني «شراكة» بين الأطراف/ الطوائف وركيزة لـ«التوازن الوطني». وقد وظف «الثنائي الشيعي» وحلفاؤه في «التيار العوني» مراراً مصطلح «الميثاقية» لتوزع الحصص الوزارية وتعطيل الحكومة ومجلس النواب، وللإخلال بـ«التوازن»، أكثر مما استخدموه لبناء «الشراكة». ونتيجة لذلك يستغل هذا «الثنائي» الأزمة السياسية والاقتصادية سعياً إلى «مؤتمر تأسيسي» يهدف تحديداً إلى طي صفحة «اتفاق الطائف» وتغيير النظام. من هنا استهلال «الورقة الكويتية» مطالبها بالتزام تنفيذ هذا الاتفاق «المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي»، لأنه أساس سياسي وطني لكل الحلول. وجواب الدولة أن لبنان «يلتزم الاتفاق»، وهو ما يردده معظم الأطراف، باستثناء «حزب إيران» الذي يعتبر أنه غير الواقع اللبناني على نحو أنهى صلاحية هذا الاتفاق أو يتطلب تعديله لمصلحته كطرف مسيطر بسلاحه غير الشرعي. لعل التعديل مطلوب فقط لتأكيد أن نزع سلاح الميليشيات بات يشمل أيضاً «سلاح حزب الله». لكن وزير الخارجية عبدالله بوحبيب استبق وصوله إلى الكويت للقاء نظرائه العرب بالقول، إنه ليس ذاهباً «لتسليم سلاح حزب الله». واقعياً لم يكن أحدٌ يتوقع ذلك، غير أن تأكيده بهذه الصيغة، ولو إعلامية، يعكس موقف الجناح «العوني» المتحالف مع «حزب إيران». تبلغت الدولة اللبنانية بوضوح أن «الورقة الكويتية» هي خليجية- عربية– دولية، إلا أنها استسهلت التعامل معها على أنها مجرد كلامٍ بكلام. فعلى المطالبة بـ«ضمان ألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع استقرار المنطقة وأمنها» يأتي الرد بأن لبنان «لن يكون منطلقاً لتحركات تمسّ بالدول العربية»... لكن إمرة «سلاح حزب الله» موجودة في إيران ولا يبدي لبنان «الرسمي» أي قدرة أو حتى رغبة في مساءلته. وعلى المطالبة بألا يكون لبنان «مصدراً لتجارة المخدرات وترويجها» يكون الرد بأن لبنان يتخذ الإجراءات اللازمة لمنع أعمال التهريب... لكن هذا التهريب تحديداً في اتجاه السعودية لم يعد نشاط تجار مخدرات بل غدا سياسة أمنية معتمدة ومتعمدة، ويُشرف «حزب إيران» وأطراف في النظام السوري على تنفيذها سواء بحماية معامل الكبتاجون أو بتسهيل عمليات تصديره. واستطراداً، فإن المطالبة بـ«وقف العدوان اللفظي والعملي ضد الدول العربية وتحديداً الخليجية» وبـ«التزام سياسة النأي بالنفس» يأتي الرد عليها بأن الحكومة اللبنانية «تلتزم قولاً وفعلاً النأي بالنفس» عن الصراعات الإقليمية، وهو نص عليه «إعلان بعبدا» (2012) ووقع عليه «حزب إيران» لكنه التزم عكسه... فما قيمة التزام الحكومة في هذه الحال؟ للأسف، تنتهي كل المبادرات لمساعدة لبنان إلى النتيجة التي اختصرها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بـ«ساعدونا لنساعدكم». لم تطلب «المبادرة الكويتية» من لبنان سوى أن يبرهن أن ثمة دولة- وليست ميليشيا- تديره، وأن لديه إرادة حقيقية للخروج من أزمته. فكل التعقيدات تتقاطع في خطط التعافي الاقتصادي إذ ينبغي أن يكون أيضاً تعافياً سياسياً، ولا تستطيع هذه الخطط شيئاً ما دام «حزب إيران» وسلاحه متسلطين على الدولة ويهددان استقرار البلد. كيف يمكن صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي إقناع سائر الدول بتقديم مساعدة لدولة على رغم أن ميليشيا تصادر أمنها وقرارها وحدودها وسيادتها.
مشاركة :