بالرغم من الانطباع السائد بأن الولايات المتحدة بصدد القيام بانسحاب كلي من الشرق الأوسط، إلا أن عدة مؤشرات تشي بأن واشنطن ستبقى، والأهم من ذلك أن المنطقة ستحظى باهتمام أكبر من قبل إدارة الرئيس جو بايدن في السنة الثانية له من ذلك الذي حظيت به في السنة الأولى. وتتسارع التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تحتم على إدارة بايدن توسيع اهتمامها بالمنطقة، لكن دون أن تصبح هي مدار اهتمامها خاصة في ظل تصاعد التهديدات التي تمثلها كل من روسيا والصين سواء في ما يتعلق بالتوتر على الحدود الأوكرانية أو تمدد النفوذ الصيني في عدة مناطق من العالم. وحازت الأزمة بين تايوان والصين من جهة والغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا من جهة ثانية على تركيز إدارة بايدن في عامها الأول، لكن التطورات التي يشهدها الشرق الأوسط الذي لا يزال ملتهبا بسبب استمرار الصراع في اليمن وعدم الحسم في سوريا تجعل واشنطن تراجع حساباتها وفقا لمراقبين، خاصة أن الاستراتيجية الأميركية التي اتبعتها في السابق من خلال محاولة التخلي عن المنطقة جاءت بنتائج عكسية، فعدة دول من المنطقة بدأت بالفعل في إقامة شراكات مع منافسي الولايات المتحدة مثل الصين. ويرى بريان كاتوليس وهو زميل في مؤسسة التقدم الأميركي يركز عمله على سياسة الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، أن هناك عدة أسباب تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة الاهتمام بقوة بالمنطقة من بينها إمكانية حدوث أزمة أمنية تلحق ضررا بالقوات الأميركية المتمركزة فيها. بريان كاتوليس: على واشنطن اتباع نهج دبلوماسي وإجراءات أمنية بالشرق الأوسط وقال كاتوليس في تقرير نشره معهد ”ميدل إيست” إن “ما يحدث في المنطقة لا يبقى في المنطقة حيث يشهد الشرق الأوسط حاليًا مزيجًا معقدًا من التوترات المتصاعدة بين الدول الرئيسية في وقت تسعى فيه دول أخرى لإخماد النزاعات والتهديدات الإقليمية. في أي يوم من أيام الشرق الأوسط، هناك حوادث أمنية يمكن أن تتفجر بسهولة لتتحول إلى حريق واسع النطاق يؤثر ويجذب القوى العالمية مثل الولايات المتحدة، لاسيما إذا ألحق حادث أمني الضرر بالقوات الأميركية المتمركزة في المنطقة. وإن اندلاع أعمال العنف الأخيرة التي تورط فيها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا وهجمات الحوثيين المتكررة على أبوظبي خلال الأسبوع الماضي ليست سوى أحدث الأمثلة على ذلك”. وبالرغم من أن المحادثات التي تقوم بها قوى دولية مع إيران لإعادة إحياء الاتفاق النووي الموقع في العام 2015 إلا أنه من غير المضمون أن يُفضي ذلك إلى ردع الميليشيات الموالية لطهران في المنطقة، وهو ما يشكل خطرا آخر على الولايات المتحدة مواجهته. وتابع كاتوليس أنه “حتى مع أفضل السيناريوهات المتعلقة بالمحادثات النووية مع إيران في فيينا، وهو الوصول إلى شكل من أشكال الاتفاق الذي يعالج بكيفية مناسبة المخاوف بشأن برنامج إيران النووي، فمن غير المرجح أن يفضي ذلك إلى تخفيف للتوترات المدفوعة بحوادث أمنية إقليمية تتعلق بإيران وشبكتها من الشركاء والوكلاء وردود الفعل المضادة من البلدان الأخرى في المنطقة”. وبالفعل، دفع التوجه الأميركي للانسحاب من الشرق الأوسط الدول الرئيسية في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى التعويل على نفسها وتنويع شراكاتها حيث ضاعفت تعاونها مع الصين خاصة في المجال العسكري. وإذا فشلت مفاوضات فيينا بما قد يجعل إيران تسرع وتيرة خطاها لامتلاك سلاح نووي فإن السعودية على سبيل المثال ستخطو نفس الخطوات لتأمين نفسها ومصالحها في المنطقة، وهو ما سيخلق نوعا من السباق نحو التسلح النووي وقد ينتهي بالمنطقة إلى التفجر وهو ما لا يخدم الولايات المتحدة ومصالحها. ودعا كاتوليس الولايات المتحدة إلى مراقبة الأحداث المتسارعة بعناية ومنع أي تصعيد داخل الشرق الأوسط من الانزلاق إلى أزمة أوسع، موضحا أن ذلك “يتطلب نهجًا يستخدم الدبلوماسية المدعومة بإجراءات أمنية قوية بالتعاون مع الدول الشريكة في المنطقة للحد من التهديدات الإقليمية”. التوجه الأميركي للانسحاب من الشرق الأوسط دفع الدول الرئيسية في المنطقة إلى التعويل على نفسها وتنويع شراكاتها وبالرغم من استمرار التصعيد في مناطق في الشرق الأوسط مثل اليمن حيث احتدمت المواجهات مؤخرا بين قوات التحالف العربي بقيادة السعودية والحوثيين المدعومين من إيران، إلا أن هناك عوامل قد تجعل الولايات المتحدة تنخرط أكثر في المنطقة. ويرى خبراء أن اتفاقيات أبراهام تُشكل فرصة حقيقية لإرساء السلم في المنطقة لكن شريطة ألّا تقتصر التحركات في هذا الصدد على التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل وأن تمتد لتشمل عملية السلام بين تل أبيب والفلسطينيين. كما تتهيأ المنطقة لتعاون أكبر رغم الخلافات خاصة في ظل المساعي لتطوير التعاون التجاري والاقتصادي وتأمين الطاقة وضمان الأمن المائي المشترك. وقال كاتوليس إنه “لكي تُمسِك إدارة بايدن بزمام المبادرة على هذه الجبهة، سيتطلب الأمر مضاعفة الجهود لوضع الدبلوماسية أولاً في الشرق الأوسط وتعميق شبكة الشراكات الواسعة للولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة. ولكي تتجنب واشنطن أن يتم تجاوزها من قبل أجندات الجهات الفاعلة الأخرى في الشرق الأوسط، فإنها تحتاج إلى التفكير في نهج دبلوماسي أكثر استباقية وطموحًا”.
مشاركة :