المثقف والمنفى .. عزلة لا تملؤها إلا الكتابة

  • 2/2/2022
  • 19:47
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

المنفى كما يراه الأدباء هو كلمة صغيرة تخبئ وراءها إرثا بشريا ثقيلا ومرا، مخترقا بالأشواق والفقدان، ومؤثثا بالسعادات الصغيرة غير المرئية. كتب المبدعون "المنفيون" عن فراق الأهل والأصدقاء والديار، ذكرياتهم وأوطانهم المتخيلة، ولا نخطئ القول إن وصفناهم بالغرباء الذين يقضون معظم حياتهم في التعويض عن خسارة مربكة، بإيجاد عالم جديد يبسط سلطانه عليه. هناك من اختار المنفى - طوعا أو قسرا - بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأثناء الحروب الأهلية والنكسات والنكبات التي أخرجت آلاف اللاجئين والنازحين والمترحلين، وكذلك الباحثون عن لقمة العيش في العالم الواسع، حتى خرج لنا أدب المنفى بما يحمله من اغتراب، وقسوة وقلق وجودي، تعوم فيه الأسئلة الكبرى. المنفي كما يراه إدوارد سعيد إدوارد سعيد، الكاتب والمفكر المعروف، بحث في حياته ومشواره الأكاديمي في الولايات المتحدة عن بواعث النفي وآثاره، واكتشف أن "النفي لا يقتصر معناه على قضاء أعوام يضرب فيها المرء في الشعاب هائما على وجهه، بعيدا عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حد ما أن يصبح منبوذا إلى الأبد، محروما على الدوام من الإحساس بأنه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقل ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل". في كتابيه "المثقف والسلطة" و"تأملات في المنفى" وبضعة من المقالات سيرة ذاتية عن الاغتراب، يقول عنها "حياة المنفي تسير بحسب روزنامة مختلفة، أقل فصولا واستقرارا بالقياس إلى الحياة في الوطن، فالمنفى هو حياة تعاش خارج النظام المعتاد، حياة مرتحلة بلا مركز، وما إن يألفها الإنسان ويعتاد عليها حتى تنفجر قواها المزعزعة من جديد". ومثله محمود درويش، الذي أفرد شعره للحديث عن المنفى، وكتب عنه حتى وهو داخل وطنه، متحدثا بالنيابة عن آلاف الفلسطينيين المنفيين من بني جلدته، وتأثر بدوره بإدوارد سعيد وكتاباته، الذي كان يرى أن المنفى هو ذلك الصدع الذي يصعب شفاؤه ويفصل بصورة قسرية بين المرء ومسقط رأسه، بين الذات وبيتها الحقيقي، كما إن الحزن الجوهري الذي يولده لا يمكن التغلب عليه. فيما كتب درويش على لسان صديقه سعيد "أنا من هناك، أنا من هنا، ولست هناك ولست هنا، لي اسمان يلتقيان ويفترقان، ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم". المنفي ينطفئ ليتوهج في كتاب "الكتابة والمنفى" للدكتور عبدالله إبراهيم من العراق، يتحدث عن المنفي، معرفا إياه بأنه هو من اقتلع من المكان الذي ولد فيه، وأخفق في مد جسور الاندماج مع المكان الذي أصبح فيه، فحياته متوترة، ومصيره ملتبس، وهو يتآكل باستمرار، ولا يلبث أن ينطفئ بالمعنى المباشر ليتوهج، مرة أخرى، بالمعنى الرمزي. ومن الأدباء من عاش في منفاه اختياريا، مثل عابد خزندار الأديب السعودي الراحل، الذي سبق زمنه وحمل الثقافة أينما حل، إلى أن توفي في 2015. خزندار في أحد لقاءاته يقول "أكاد أقول إنني عشت مائة عام من العزلة، تماما كما قال جابرييل جارثيا ماركيز في روايته بهذا العنوان، والعزلة لا تقاس بالأعوام، إنما بالشعور والإحساس، وهناك عزلة فعلية عزلة الجسد، وعزلة نفسية هي عزلة النفس، وقد عشت الاثنتين"، مشيرا إلى أن العزلة النفسية مفروضة فرضا على الكاتب إذا كان صادقا مع نفسه، بمجرد أن يخط أول حرف على الورق، وكان يعيش وحيدا في باريس منفيا عن نفسه ومن نفسه. المنفى جرح بليغ واسيني الأعرج، فيما كتبه عن المنفى، كان يكتب متألما، واصفا في مقالته ضمن كتاب "الكتابة والمنفى" أراضي المنفى بأنها وطن الكتابة، ومضى يقول "الذي أغرقني في نوبة من الألم الذي لا اسم ولا طعم له إلا الخوف من المبهم، هو الموت في الصمت والعزلة، وبعيدا عن جزء حي من الذاكرة". وقال "إن موت محمد ديب - مؤسس الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية - كان يمكن أن يتحول إلى تظاهرة وطنية لو دفن في الجزائر، والجرح الذي مس ديب كان كبيرا ولم يكن بإمكانه إلا أن يموت وحيدا بعد أن عاش أكثر من 50 عاما منفيا، في عزلة لا شيء يملؤها إلا الكتابة، والكتابة فقط". المنفى - بحسب واسيني الأعرج - ليس لعبة مؤقتة نفككها ونرتبها كما نشاء، المنفى صيرورة تتحكم في ذواتنا أكثر مما نتحكم فيها، متحدثا عن حياته في فرنسا، منفاه الذي اختاره بعد وفاة والده تحت التعذيب في صيف 1959 "كنت أظن أن المنفى مجرد كذبة نجمل بها النصوص، لم أكن أعرف أن لعبة الكتابة ستصبح فعلا جديا، وأن النص الأول الذي نشرته في حياتي الأدبية: ألم الكتابة عن أحزان المنفى، سيضعني أمام اختبار صعب كنت أظنه مجرد لغة أو لعبة لفظية حاسبني عليها الأصدقاء وقتها بأني أتحدث عن شيء لا أعرفه. لم يكن المنفى كذبة، كان جرحا بليغا". فرصة للتأمل في كتابات المثقفين المنفيين نلمس أوطانا متخيلة، وأحداثا متناثرة هنا وهناك من بقايا الذاكرة، لكنها فرصة للتأمل كما يرى غائب طعمة فرمان الروائي العراقي، الذي كان يقول "إن الابتعاد عن الوطن وفر له لحظات من التأمل ومراجعة الماضي، وهكذا استطاع أن يتأمل الحي الذي شب فيه والناس الذين يعرفهم، والأحداث التي وقعت له أو لغيره من المعارف". يكتب المنفيون عادة عن شقائهم، وهو عقاب يشبه الحكم بالموت، مثلما نفي الأديب الروماني أوفيد إلى قرية ريفية تقع على البحر الأسود، بعيدا عن روما، لأنه كتب عملا أثار حفيظة الحاكم باعتباره عملا لا أخلاقيا، وذكر أوفيد - في عمل له - ليلته الأخيرة في روما وأهوال السفر إلى البحر الأسود ورتابة الزمن في المنفى، وتوفى دون أن تكتحل عيناه برؤية الوطن. أما دانتي أليغري الشاعر والفيلسوف الإيطالي، فنفي عن مدينته فلورانسا، وانتقم رمزيا من المسؤولين عن نفيه، حينما وضعهم ضمن رائعته وملحمته الكوميدية "الجحيم". وفي قراءتها للمشهد، تقول أسماء غريب الناقدة والمترجمة العراقية في مقال لها "إن أدب المنفى ليس جنسا أدبيا بقدر ما هو أدب يلازمه حدث مهم، ألا وهو النفي، ومواز لأدب السجون أو أدب المقاومة أو أدب الرحلة، ويغطي كل الأجناس الأدبية المعروفة من شعر ورواية وقصة قصيرة وملحمة ومسرحية، وأحيانا يتجاوز المتعارف عليه من الأجناس الأدبية الرفيعة، ليقدم يوميات أو شهادات أو سيرة". ولعل من مزايا المنفى أنه يفتح فضاءات جديدة للنفس، وآفاقا جديدة للعين، بصرا وبصيرة، يغدو الفضاء فضاء مركبا، لذلك فإن بعضا من أجمل ما في الآداب العالمية أنتج في المنافي، في الشعر كما في غيره من الفنون، في حقيقة جديرة بالبحث والتقصي.

مشاركة :