شهدت مدينة القاهرة معرضاً تكريميا استيعاديا للفنان التشكيلي المصري – اللبناني شانت أفيديسيان، الذي رحل عن عالمنا منذ أربع سنوات مخلفا إرثا فنيا كبيرا ومميزا. وضمّ المعرض الذي انعقد في الشهر الماضي مجموعة كبيرة من أعماله الفنية لاسيما تلك المنتمية إلى المرحلة غير المعنية بالأيقونات التي اشتهر بها والتي خلّد خلالها شخصيات عربية لاسيما منها المصرية من الزمن الجميل الذي ساد بداية بفترة الخمسينات وصولا الى أواخر التسعينات من القرن الماضي. من هذه الشخصيات “جمال عبدالناصر وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفاتن حمامة وأسمهان وهند رستم وتحية كاريوكا وسامية جمال وفريد الأطرش. ذكر البيان المرافق للمعرض أن الحدث الفني ضمّ مختارات من أعمال أفيديسيان تعود إلى المجموعة الخاصة بجورج ميكاليان (1914 – 1986)، أحد أبرز المقتنين في مصر إلى جانب مقتنيات خاصة أخرى تم الاستعانة بها وجلبها لتكون من ضمن المعرض علها تساهم في إعطاء صورة شاملة عن الفنان وعن الأثر الذي تركه في جيل كامل من الفنانين المصريين. وعلى هامش الحدث الفني تحدث ابن جورج ميكاليان أن العمل على تنظيم المعرض ورؤيته لتلك الأعمال الفنية، التي تنتمي إلى حقبات مختلفة من مسيرة الفنان مجتمعة في فضاء الصالة الفنية إضافة إلى الصور الفوتوغرافية الشخصية التي أغنت المعرض والصور التي التقطها الفنان للعديد من الأماكن في مصر لتجدد صداها لاحقا في لوحاته حيث حركت في نفسه مشاعر كثيرة فهي كأنما ظهرت لتسرد تاريخه الشخصي عبر علاقته مع الفنان الذي كان صديقا مقربا منه وعلاقة والده به الذي أحب أعماله كثيرا وساهم في إطلاقه فنيا. فنانون من الزمن الجميل فنانون من الزمن الجميل وفيما يشبه الوصية المؤثرة تمنى الابن أن يكون هذا المعرض ملهما للفنانين العرب بشكل عام وللفنانين المصريين بشكل خاص لاسيما من ناحية حبه الكبير لبلده ولثقافتها في زمن تذوب فيه الهويات ويخفت فيها الاهتمام بما يشكله الوطن من أهمية قصوى في تأسيس تيارات فنية ذات صبغة مصرية معاصرة لا تقل أهمية عن الهويات الأخرى. ولعل أبرز المختارات في المعرض تلك التي اشتغلها الفنان انطلاقا من المشاهد المصرية التقليدية والنساء بملاءاتهن السود وأحراج النخيل والقوارب العائمة على نهر النيل العظيم. أجواء جاءت تحت تأثير علاقته القوية مع صديقه المهندس المعماري المصري الشهير حسن فتحي. يُذكر أن الفنان شانت أفيديسيان بلغ أوج شهرته مع مجموعة لوحات حملت عنوان “أيقونات النيل”. مجموعة اشتغل عليها ما يفوق الثماني سنوات. وجسدت شخصيات فنية وسياسية وثقافية مؤثرة في تاريخ مصر. بعض من جمال الصعيد المصري وسلط البيان الصحافي المرافق للمعرض الضوء على ذكريات مؤثرة تؤرخ لانطلاق سيرة شانت أفيديسيان الفنية عبر كلمات مقتني أعمال الفنان إذ قال إن والده تبنى دعم الفنان منذ البداية وقد سأل والده في العديد من المرات “ماذا سنفعل بكل تلك اللوحات؟ وكان دائما يجيبه: سترى، سترى ماذا سنفعل بها”. وها هي المئات من أعمال أفيديسيان مُكرّمة في صالة “آرت توكس” في منطقة الزمالك بالعاصمة المصرية القاهرة. أعمال أظهرت اعتماد الفنان على العديد من الأساليب الفنية والروافد الثقافية التي لم يكف الفنان عن تطويرها حتى آخر سنة من حياته. وفي هذا السياق أيضا ذكر البيان المرافق للمعرض أنها “أعمال جمعتها عائلة على مدى أربعين سنة من حياة الفنان”. وعند الاطلاع على هذه المجموعة يمكن القول إنها تضمنت الكثير من الأعمال التي لم تلق الشهرة الكافية، ولكنها بالتأكيد هي التي كانت المنطلق الذي أظهر تعلق الفنان بمصر وحبه لها وعدم اكتفائه من القبض على المشاهد العابرة التي عرفتها مصر بداية من الخمسينات حتى حلول أواخر التسعينات التي أثبتت أنها الفترة المفصلية التي تفشت فيها كآبة مُعلنة ضربت شعوب المنطقة بأسرها، شعوب كانت قد بدأت تتحسس تهدّج ملامحها الجميلة منذ السنوات الأولى للسبعينات وصولا إلى يومنا هذا حيث الانهيار شبه التام للقيم وتاليا لحسّ الانتماء لأوطانها. عند عودته من الدراسة خارج مصر انغمس الفنان، شوقا لبلاده ولهويته الأرمنية أيضا، أكثر فأكثر في تصوير معالم مصر الثقافية والسياسية بداية بالسبعينات من القرن الماضي ومارس فنون التصوير والرسم والغرافيك وتصميم الكتالوغات والأزياء الشعبية الأرمنية والمصرية على حدّ السواء وتصميم ملصقات الأفلام السينمائية. كما تميزت أعماله ولاسيما منذ بداية الثمانينات بتأثرها بالفنون الشعبية المصرية والفنون الفرعونية وتراث النوبة وأزياء وحليّ النساء الصعيديات، والهندسة والمنسوجات والزخارف الإسلامية، الفاطمية والمملوكية والعثمانية، والهندسة المعمارية المعتمدة على الفن الباروكي الذي تميّزت به العمارة خلال عهد الأسرة الخديوية. لأجل ذلك كله وأكثر يمكن اعتبار الفنان شانت أفيديسيان من أهم الفنانين الذين بالرغم من دراستهم خارج بلدهم لفترة طويلة وأسفارهم العديدة وتعرضهم لشتى أنواع الفنون والثقافات استطاع أن يبني عالما لم يخرج لا عن “أرمنيته” ولا عن كونه مصريا بكل ما تعني الكلمة من معنى. يذكر أن الفنان شانت أفيديسيان ولد في صعيد مصر عام 1951، ودرس في مدرسة الفنون والتصميم بمتحف مونتريال للفنون الجميلة في كندا، وأكمل دراسته في الفنون التطبيقية في المدرسة القومية العليا للفنون الزخرفية في باريس، وعمل فترة في صناعة الطباعة بالمدرسة العليا للفنون والزخرفة بباريس قبل عودته بتجاربه إلى مصر عام 1980 ليعمل في مؤسسة الآغا خان مع المهندس حسن فتحي، المعروف بـ”مهندس مصر الفقير”، الذى قام بإحياء التقنيات الإسلامية والمصرية التقليدية، والذى كان له تأثير واضح في توجيه اهتمامات شانت للفنون التقليدية والمواد المحلية والحفاظ على الهوية المصرية. كما حصل على دكتوراه في الفلسفة في الاتحاد السوفييتي. واستطاع أفيديسيان الذي تأثر رغم دراسته الفنية وأصوله الأرمنية، بثقافة تعظيم الهوية المصرية، أن ينقل رموز مصر الفنية والتاريخية والسياسية إلى لوحات وطافت أعماله بمعارض عالمية وبيعت بعض لوحاته بأسعار عالية في مزادات علنية.
مشاركة :