هناك بلا شك أواصر شائكة وغامضة بين «الوثيقة التاريخية» و«التكنيك الروائي»، ولعل «التنافر المنسجم» -إذا صحّ الوصف- بين هذين الحقلين، هو المحفّز الأهم والأساسي على تجاوز مصطلح «الرواية التاريخية» التي أسس لها جرجي زيدان، للوصول إلى مصطلح «التخييل التاريخي» الأكثر إنصافاً للجهد السردي المبذول من قبل الروائي المنشغل بحدث تاريخي معيّن، من أجل نقله من ضيق العبارة إلى سعة الرؤية، ومن التراكم العمودي إلى الثراء الأفقي. «مس بيل» وزرافة الباشا كانت هذه الانشغالات والأسئلة الخاصة بالعلاقة بين الرواية والتاريخ هي منطلق النقاش المتنوع شكلاً ومضموناً، الذي قدمه كل من الروائي العراقي الدكتور شاكر نوري، والروائية المصرية رشا عدلي حول تقييمهما لأبعاد المكان وظلال الزمان في وقائع الماضي، وأثر هذه الظلال والأبعاد في توظيف «الأرشيف» لصالح «الخيال»، وذلك ضمن ندوات ونقاشات مهرجان طيران الإمارات للآداب المقامة مساء أمس الأول بمدينة الحبتور بدبي. فبين الكاتب شاكر نوري، صاحب رواية «خاتون بغداد» التي تتحدث عن جرترود بيل أو «ميس بيل» سكرتيرة المندوب البريطاني السامي في العراق، وبين الكاتبة رشا عدلي، صاحبة رواية «آخر أيام الباشا» التي تنطلق من قصة إهداء محمد علي باشا زرافة إلى ملك فرنسا، تكمن أحجية من توظيف الأزمنة وسجال هذا البُعد الذي أثر بشكلٍ كبير على تداخل الأحداث في العالم العربي. خاتون بغداد وناقش نوري في مداخلته حيثيات روايته الأخيرة المبنية على أحداث تاريخية، وما أضافه على هذه الأحداث من تفاصيل خيالية لملء الفجوات، ليحتفل في «خاتون بغداد» بالماضي المجيد للعراق، ويسلط الضوء على الشخصيات النسائية القوية التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ العراق الحديث. وناقش الكاتبان في الجلسة، كيفية بناء العوالم الزمنية البديعة في الأعمال الأدبية، وتأثير البيوغرافيا والتوثيق التاريخي على عنصر «الزمن» في الكتابة. ويرى نوري أن الروائي الذي يعيد الأحداث القديمة إلى الواجهة مجدداً، عليه أن يبتكر صياغتها ويمنحها البريق الذي تستحقه بسبب تأثيرها القوي وانعكاسها المهم على مجريات الماضي والحاضر على السواء، مضيفاً أن هناك خيطاً رفيعاً يجمع بين «الروائي» و«المؤرخ». وأكد أن هذه النوعية من الروايات تسعى لفهم التاريخ البعيد والقريب، حيث استند نوري على الوقائع المحيطة بـ«ميس بيل» المرأة التي يقع على عاتقها، ذات يوم، مستقبل بلد، وتعاملت مع تشرشل ولورنس العرب ومختلف عشائر العرب، رغم أنها مع ذلك امرأة عاطفية، رقيقة، هشة غير قادرة على رسم خياراتها الحياتية. أيام محمد علي ومن جانبها، أوضحت الروائية رشا عدلي، أنها تناولت في روايتها «آخر أيام الباشا» محاور عدّة أبرزها شخصية محمد علي باشا، وهي شخصية احتار في تصنيفها ووصفها المؤرخون، وترسخت لدى معظم الناس معلومات عنه استمدوها من كتب التاريخ مرتبطة بسياساته الاقتصادية والاجتماعية، فسعت في الرواية إلى تقديم الجانب الآخر من الشخصية بعد أن قرأت العديد من الأعمال التي تناولت محمد علي وحياته، ولذلك اكتشف قراء الرواية أن الصورة التي ارتسمت لديهم ليست صحيحة، ما شجعهم على مزيد من البحث عن تلك الشخصية، معتبرة أن هذا التأثير هو ما يجعل الرواية التاريخية: سمة العصر الحالي.
مشاركة :