يمكن أن تقوم حضارةٌ كاملة على مبدأ استكشاف الغموض والإحاطة به، ويمكن ألّا تقوم حين يتحوّل الغامضُ إلى بديل تعويضي عن المقاربة؛ مقاربة النفس والعالم. فلنبدأ؛ ونضع هذه الملحوظة قيد التداول: إن ما نسميه غامضاً عادة، ليس شيئاً آخر غير الواضح وقد اعتراه طارئ ما، أو أحاطت به عباراتٌ من نوع: المبهم في حدّ ذاته، لكن لماذا لا يخطر ببالنا أنه يمكن أن يوجد في هذا العالم الشيء الغامض بحد ذاته؟، أي ذلك الشيء الذي يعبّر عن نفسه بالأصالة لا بالنيابة؟ ذلك الشيء الذي يفترق عن الواضح منطلقاً ومصيراً؟ إننا نضع هذه الملحوظة، ونحن نفكّر بتلك الانطلاقات من نوع مواقف النفّري، أو ما تابع مجراها محاذياً أو مقلداً في الثقافة العربية؛ وفي غيرها. من دون إعطاء هذا الغامض قيمة، سواء بوصفه بالشطحات، أو بوصفه بالإبداعات، يمكن أن نقول إن ميلاد الغامض الأصيل، وليس الهامشي يبدأ من حادثة عادية جداً، تلك هي تحريم مقاربة الواقع، ورفع لافتة الحظر حول كل جهاته، ووعي هذه الحادثة في وقت واحد معاً. لا نتحدث هنا عن التوريات اللغوية، ولا الاستعارات المحالة التي تثير أعصاب التقليديين، لكننا نتحدث عن نوع من مقاربة غريبة تلجأ إليها الكتابة لكسر حاجز الوضوح وإعلانه إفلاساً ثقافياً، وإحلال فضاء جديد محل الفضاء المعتاد. أو بعبارة أخرى، وعي مجانية الوضوح ولا هدفيته وتاريخيته، وإسقاطه من عليائه، واعتباره نمطاً مكروراً من الرؤى أو ظلاً زائفاً لجسد ثقيل يبحث عن ظلاله. لنتابع هذا الخيط قليلاً. الظلُّ الذي تلقيه الأشياء قد لا يكون مماثلاً للأشياء نفسها بالضرورة إذا انتبهنا إلى خاصية وسائل الإضاءة ونوعيتها وزاوية الإسقاط. من الممكن أن تتعدد ظلالُ الشيء الواحد حين تتغير زوايا الالتقاط والإضاءة ونوعية الضوء نفسه. وهكذا فإن الثقافة من هذا المنظور هي ظلُّ العالم، وقد سقط على الورق أو اللوحة أو انتشر في الفضاء أصواتاً، لكن لأنه فعل وعي سيكون أكثر واقعية من الواقع نفسه. فأي الظلال أقرب إلى العالم بكل ما فيه من التباس؟ من هذا السؤال يعلن الغامض عن نفسه، ولا يتوقف ليجيب، بل يمتد فعلاً وقولاً ليحوّل القول الثقافي تحويلاً عجيباً؛ إنه مصدر آخر من مصادر الإضاءة. وحين نلمح على الورق ما يمكن أن نسميه ازدواجية الظلال، نشعر أن إشكالية ولدت. أليس هذا هو ما تعكسه الكتابة الراهنة؟ لم يعد للشيء ظلٌّ واحد، كما يصرّ التقليديون والواضحون قاصدين ومصممين، أي لم يعد واضحاً تماماً، لا هذا الواقع نفسه بوصفه الشيء، ولا هذا الانعكاس بوصفه وعياً به. الأضواء المتعددة، إذا سُلطت على شيء واحد من جهات متعددة ومتعاكسة قد تخفيه تماماً وتفقده ظله، وهو ما يحدث بدرجات متفاوتة، وإن كنا لا نملك ما يؤكد مصدر فقدان الظل هذا. قد يكون الأمر مصادفة تاريخية بسبب تداخل عدة عصور وثقافات في لحظة زمنية واحدة، وقد يكون الأمر صراعاً ثقافياً خفياً هدفه تضليل الوعي بتأكيد لا حقيقية العالم المعاش من حولنا. * * * أين هي منطقة الغامض في كل هذا؟ إنها في الإحساس المباشر بلا واقعية الظلال المنعكسة، ومحاولة اجتراح إحساس بظل آخر ثابت وأكيد، لكنه غير مجسّد. إننا نفترض هنا أن الفعل الثقافي في أبسط معانيه محاولة للكشف عن حقيقة العالم بجعله يلقي ظلاً. لكن ماذا يكون عليه الفعل الثقافي حين يكتشف أن الأشياء فقدت ظلالها؟ أليس هذا الكشف هو اللامعقول ذاته؟ وكيف يُفهم اللامعقول؟ أليس بوصفه انقلاباً أو طارئاً يطرأ على الخالد الأبدي؛ على المعقول؟ ما نطرحه إذاً عكس هذا تماماً، أي أنه كسر حاجز الواضح المعقول وإظهار لا معقوليته. الظل المعتاد لا يعكس شيئاً من حقيقية العالم. إنه لا يتجاوز الواقع إلى ما هو أشد واقعية منه. إنه الواضح المجاني الذي لا يستطيع أن يغامر فيه الفكرُ والإحساسُ، أو هو الوجود مقلوباً، وقد انعكس بوصفه طبيعة الأشياء، أو ما شئتَ من تبريرات. بين الغامض والواضح علاقة متبادلة، وكأن كل واحد منهما جزء من بنية الآخر؛ لا غرضي/غرضي، تركيب غير مألوف/تركيب مألوف، لا ملموس/ملموس، لا محدّد/محدّد، احتمالات/يقينيات، تساؤل/جواب، وهكذا. في هذه الأزواج المتقابلة تتضح حقيقة جديدة؛ رغم افتتاننا بالغامض، لا يمكن أن نستمر في اعتباره جنساً مغايراً للواضح. إنه جزء من بنيته. لكن في حالة وعي شامل بالبنية. أمّا حين ينفرد الواضح بنفسه، ويفعل الغامض الأمر نفسه، يصبح وعي الثقافة بنفسها مغلوطاً. للثقافة وضوحها وغموضها المتعالقان. وما يحدث حقاً هو أن هناك صعوبة ومقاومة في الثقافة العربية تجاه استغلال الغامض/الواضح، أو حتى التوفيق بينهما مع وعي ضرورة الغامض، ذلك الذي تطلق عليه الثقافة الراهنة اسم المكبوت حيناً أو اسم اللاوعي في أحيان أخرى. إن ثقافة تعي مكبوتها ومحرمها هي ثقافة تعيش إشكالياتها، أمّا حين ترفض الثقافة هذه المعايشة، فإنها تتنكر لمبدأ تطورها، ومبدأ تطور كل حضارة. ما الذي يفعله الواضح غير إقامة بنية وهمية؟ في الشعر والرواية والمقالة والبحث؟ أيكون الواضح غير تحصيل حاصل؟ يقيم الواضح بنية وهمية لأنه ينطلق من وهم بديهية وطبيعية الواقع بكل ما فيه. إنه ليس صيرورة، ليس منطقة محرمة وأخرى مباحة، بل هو منطقة مباحة فقط بهذا الظل الذي يلقيه تحديداً. * * * تعدد الظلال إذاً فعل مشاكس. وكل ما هو مشاكس تأكيدٌ على أن الجغرافيا لم تستنفد إمكانياتها بعد، وكذلك اللغة والتاريخ. إن تاريخاً مستنفداً هو بالضبط هذه الرؤية المصلوبة على ظل وحيد يلقيه الشيء القائم، الحاضر/الواقع. وكيف يكون الأمر حين يطرح الواضحُ الإنسانَ كوجود مستنفد؟ للواضح معاركه ومآسيه، وله ضجيجه أيضاً. إنه يقيم مكاناً مصطنعاً للغموض ثم ينقضّ عليه بفروسية زائفة ويعلن انتصاره. لكن مثل هذا المكان ليس إلا شبيهاً، جواباً على التحدي الذي يطرحه الغامض الأصيل حين يؤكد على مساحة المكبوت والمحرم والمحظور، إنه مكانٌ مؤقت يصطنعه الوضوح ليقول لنا إن الوجود لا يحتمل إلّا هذه اللعبة بين طرفين يمتلكهما الواقع. ويشارك الوضوحَ لعبته ذلك الانتحاءُ الذي تقيمه الثقافة حين تحوّل المحظورَ والممنوع إلى غيابٍ مطلق. إنها لا تقاربه، وتقيم في الوقت نفسه حواراً مع مطلقات من نوع الأساطير والتراكيب الثقافية القديمة، مبررة ذلك بكلية حضور ما تسمى سياسة القمع. إن رؤية مثل هذه الثقافة تنتقل من العالم وظلاله إلى عالم آخر؛ تمتلك أن تقيم له وجوداً وظلاً. وهكذا يتنازع نوعان من الفعل هذه المساحة الثرية للغامض. ومن الصعب وعي الفرق بين غامض مفتعل يطمس الوعي بالمحظور وغامض يشعل هذا الوعي. وهذه هي معركة الحداثة داخل أسوارها، أو معركة الجديد الخاصة بين تياراته المختلفة. كم كافكا في هذا العالم؟، كثيرون أخذوا من كافكا ما يسمونه العالم الكابوسي، لكن في حين يدل كافكا على عالم المحظورات، نجد مقلديه بلا دلالة. وكم صوفي كان له مجد الحلاج؟ كثيرون أخذوا من صوفيته شيئاً، فجعلوا للحجارة نبضاً وللنرجس رئة، لكن لا أحد كانت له النكهة التاريخية التي للحلاج. هذه المساحة الثرية للغامض لا تنفصل عن الواضح؛ إنها تجادله وتقابله، وهي على علاقة دائمة معه ومع محرماته ومكبوتاته وظلاله المصطنعة. وهنا الفارق فعلاً بين انتحاءٍ يأخذ الغموض، ووجوداً قائماً بذاته ولذاته، فيهذي، وبين انتحاء يعي وجوده الجدلي مع الواضح، فيشير إلى معنى، وإن كان عصياً على التحديد. يمكن أن تقوم حضارة كاملة على مبدأ استكشاف الغموض والإحاطة به، ويمكن ألّا تقوم حين يتحوّل الغامض إلى بديل تعويضي يدفعنا دفعاً إلى الاعتقاد بأن فقدان الشيء لظله ليس لعبة أضواء وزوايا وأمكنة، بل هو شيء كامن في صميم الوجود. وهكذا، فإن تجربة للغامض يمكن أن تكون تجربة عابثة، وتكون تجربة أخرى ذات معنى. * * * كل شيء يحاول إقناعنا بكمون المأساة والجريمة والاضطهاد والتمييز في صميم الوجود لا في التاريخ، ليس سوى انتحاء هارب، عن وعي أو غير وعي، من إشكالية قائمة، من مقاربة الواقع بواقع أشدّ واقعية منه وأعمق، وأكثر خطراً. وفي مثل هذا الهروب، يتخذ البشرُ أشكالاً مجردة لا تدل على شيء ولا يدل عليها شيء. وتنطبع الكلماتُ بطابع اللاغرضية واللاتحدد والقلق، لكن كل هذا ليس إلّا انتهاباً لبعض منجزات وظواهر الغامض الخلاق الذي يقف على حافة العالم محاوراً حدوده وإمكاناته وموانعه. لكن المنسيّ في كل هذا أن مثل هذه المغامرة تقع في القلب من عالم المحظورات والموانع والكوابت التي تخثرت في حضارة الغرب طوال بضعة قرون، فجاء لها السرياليون، مستوحين الفلسفة الشرقية، بالقول إن هناك واقعاً أشد واقعية من الواقع نفسه لا يبلغه إلا من أوتي حظاً عظيماً من الجرأة والخيال. إن صورة السريالي كرائد فضاء هي من اختراع عربي، ولا تمت للأصل بصلة، كما هي صورة كافكا كخالق كوابيس، وكما هي صورة جيمس جويس كرائد من رواد التداعي السخيف. ألم نخترع أشباهاً لكل ما يطرق سمعنا؟ بلى. إن خلق الأشباه ليس محدوداً بحدود اللغة أو تراكيبها كما يحاول بعض الكتّاب إيهامنا، بل هو محدود بحدود العقل الذي لم يصل بعد إلى معرفة علاقة الغامض/الواضح، فترجم الكلّ إلى جزء، والتناقض إلى وئام، وأزمات النمو إلى نبوءة بالانهيار. إن ثقافة لا تعي النمو كأزمة، أو هي تنظر إلى الأزمة كنوع من سيادة الفوضى والانهدام، لا تستطيع الوصول إلى شيء، لا في واقعها، ولا في واقع غيرها.
مشاركة :