هناك الكثير من الملوثات التي يعرف العلماء والمختصون بثقةٍ كبيرة، وإجماعٍ تام بأنها تعرض الإنسان للسقوط في شباك أمراض السرطان المستعصية على العلاج، وبالرغم من ذلك فإننا نسمح بأيدينا لهذه الملوثات السامة والخطيرة بأن تنبعث في أعماق بيئتنا بحريةٍ تامة، فنُطلق سراحها لكي تسرح وتمرح في مكوناتها من مسطحات مائية أو جوفية، أو الهواء الجوي، أو التربة ومن دون حسيبٍ، أو رقيب، أو تقنين لوجودها في بيئتنا. ويا ليتها تبقى محبوسة فقط في البيئة، وتتجول فيها هناك من دون أن تخرج منها، وإنما تكمن خطورتها المباشرة وغير المباشرة في تهديدها العصيب لأمننا الصحي من خلال الانتقال من عناصر البيئة المختلفة إلى أعضاء أجسامنا والتراكم فيها مع الزمن، وذلك تارة عن طريق استنشاق الهواء الملوث بها، وتارة عن طريق الامتصاص الجلدي، وتارة عن طريق تناول المواد الغذائية الملوثة بها، ولكن في معظم الحالات تنتقل هذه السموم المسرطنة إلى أجسادنا عن طريق الأنف، ثم تدخل في أعماق الجهاز التنفسي، ومنها إلى الدورة الدموية وإلى كل خلية من خلايا أبداننا. ولذلك ليس بالغريب، أو من غير المفهوم والذي لا يمكن تفسيره، أن نرى ارتفاعا ملموسا في حالات الإصابة بالسرطان كظاهرة عامة متفشية في كل دول العالم من دون استثناء، ولكن بدرجات ونسبٍ متفاوتة. والأمثلة على مثل هذه الحالات كثيرة ولا تعد ولا تحصى، ولكنني أختار منها آخر مثال لأبين واقعية هذه الحالات في بيئتنا وعلى صحتنا. فمن هذه الملوثات التي استخدمناها سنوات طويلة ونحن نعلم عن أنها تسبب السرطان للإنسان هو سائل سريع التطاير والتبخر، وعديم اللون وذو رائحة عضوية مميزة وقوية يمكن التعرف عليها، واسمها العلمي 1_برومو البروبان (1-bromopropane). هذه المادة الاستهلاكية دخلت في أسواقنا، ومعاملنا، ومنازلنا، ومشاغل التنظيف الجاف وغسيل السيارات وإزالة الشحوم من المعادن وغيرها منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكانت كمذيب عضوي يستخدم أساسا في تنظيف الملابس وخاصة التنظيف الجاف، إضافة إلى تنظيف المعادن بدلا عن مواد أخرى ضارة مثل مركبات الكلورفلوروكربون، ورباعي كلورو الإيثلين التي تسببت في الثمانينيات من القرن المنصرم في واحدة من أسوأ الكوارث البيئية شدة وتأثيراً في الإنسان والحياة الفطرية النباتية والحيوانية وعلى كوكبنا بشكلٍ عام، وبالتحديد كانت أضرارها وتداعياتها قد تخطت السماء السفلى ومكونات البيئة الأرضية من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة، فوصلت إلى أعالي السماء، في طبقة الأستراتسفير، والمعروفة بطبقة الأوزون. وهناك في ذلك المكان الذي لم يتوقعه أحد، ولم يخطر على بال أي إنسان، أثرت هذه المواد في غاز الأوزون الموجود في طبقة الأوزون فأدت إلى تحلله واستنفاده مع الزمن، ما سمح للأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس والتي تتكون من طاقة عالية جداً من الوصول إلى سطح الأرض وتعرض الناس والحياة الفطرية والمواد لخطرها. ولذلك كان لا بد من التفكير في بدائل عن هذه المواد المستنفدة لطبقة الأوزون، والتي كان من بينها برومو بروبان. ولذلك عالج الإنسان قضية محددة وأوجد لها حلولاً مؤقتة، ولكنه في الوقت نفسه خلق قضية بيئية وصحية أخرى تغلغلت في بيئتنا وفي أبداننا أكثر من ثلاثين عاما، ولا يعرف إلا الله ماذا فعلت بنا هذه الملوثات التي لم نكبح جماحها طوال تلك الفترة الطويلة من الزمن، وما أنزلت علينا من ويلات مرضية، وآلام صحية، من أمراض السرطان وغيرها. فقد اكتشف العلماء منذ زمن طويل الانعكاسات الصحية لهذا الملوث، ولكن لم تأخذ الجهات المختصة أي إجراء رادعٍ وفاعلٍ ضده، بل جعلوا هذا الملوث الخطير يُستخدم في مجالات كثيرة، ويتعرض له الناس سنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، حدد «المؤتمر الأمريكي الحكومي لخبراء الصحة الصناعيين» (American Conference of Governmental Industrial Hygienists) بعد وقتٍ طويل من استخدامه في عام 2003 أن معدل التعرض لهذا الملوث يجب ألا يزيد خلال 8 ساعات على 10 أجزاء من هذا الملوث في المليون جزء من الهواء، ثم بعد أن فُضح أمر هذا الملوث وانتشر خبر تهديده للصحة المهنية والعامة، قامت الجهات المختصة بخفض معدل التعرض له في عام 2014. الجدير بالذكر فقد وقع تضارب شديد ومشهود في كيفية إدارة قضية هذا الملوث على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، فكل ولاية كانت تتخبط حسب هواها، ومصالحها، وضغوط المتنفذين عليها. فولاية كاليفورنيا ممثلة في «إدارة كاليفورنيا للصحة والسلامة المهنية» وضعتْ في 2010 مواصفة للتعرض لبرومو بروبان مختلفة عن المواصفات الأخرى، وهي 5 أجزاء في المليون، وكأن المعايير الأخرى خاطئة ولا تفي بهدف حماية صحة الناس، كما أن «برنامج علم السموم القومي» (National Toxicology Program) في عام 2013 قدَّم توصية بتصنيف هذا الملوث كمسرطن للإنسان. وأخيرا وفي الخامس من يناير 2022 أعلنت وكالة حماية البيئة الأمريكية ولأول مرة لأكثر من ثلاثين عاما بإضافة برومو بروبان ضمن القائمة العقيمة المختصة بملوثات الهواء الخطرة (Hazardous Air Pollutants) والملحقة بقانون الهواء النظيف والموجودة في السجل الاتحادي (Federal Register)، حيث إن القائمة الأولى التي نشرها الكونجرس كانت في عام 1990 ومكونة من 189 ملوثا خطرا وساماً. ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا لم تُضف أية مادة ملوثة وسامة أخرى في هذه القائمة، أي أن هذه القائمة الخاصة بأخطر الملوثات وأشدها تهديدا للصحة العامة ظلت صامدة على أي تغيير أو إضافة، وكأنه لم توجد مسرطنات وسموم جديدة تعشعش في بيئتنا منذ ذلك الوقت، وتستحق أن تدخل في هذه القائمة طوال أكثر من ثلاثة عقود! فمن هذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى أستطيع أن أصل إلى استنتاجات مهمة جداً حول كيفية تعامل الإنسان مع ملوثات بيئته الضارة بصحته، وهي كما يلي: أولاً: الإنسان يتبنى المدخل «الواقعي والعملي» وليس المنهج والمدخل العلمي المبني على الأبحاث عند التعامل مع المواد الاستهلاكية التي قد تُعد بعضها ملوثات بيئية في الوقت نفسه، فإذا لم يجد البديل المناسب، فإنه سيسمح لهذه الملوثات والسموم من الاستخدام والإضرار بالصحة المهنية والعامة، ويحدد تركيزها، أو نسبة انبعاثها بما يُطلق عليه «الحد المسموح به»، ما يعني عملياً بأننا طواعية أطلقنا سراح الملوثات بنسبٍ منخفضة، ولكنها ضارة ومهددة للصحة. ثانياً: عملية وضع المعايير والمواصفات غير ثابتة، وإنما هي عملية وإجراء ديناميكي يحتاج إلى مراجعة دورية، فهي عملية متغيرة مع الوقت ومع الاكتشافات العلمية، والتغيرات السياسية والاقتصادية والمصالح الحزبية والحكومية، فكلما وضع الإنسان مواصفة لملوث ما في أحد مكونات البيئة، وجد العلماء بعد فترة من الزمن بأن هذه المواصفة يجب تغييرها لأنها لا تحمي صحة الإنسان وأنها خطرة عليه، كما حصل بالنسبة إلى برومو بروبان، ومن قبل لغاز الأوزون، والجسيمات الدقيقة، وثاني أكسيد النيتروجين في الهواء الجوي، حيث تم تغيير المواصفة عدة مرات، ما يؤكد أننا نتعرض يوميا ونستنشق سموماً ومواد مسرطنة تُسقطنا في شبح الإصابة بالأمراض المستعصية. ثالثاً: هذا الإجراء الأخير الذي اتخذته أمريكا في إضافتها لملوث جديد في قائمة الملوثات الخطرة، أتمنى أن يفتح الباب على مصراعيه لوضع ملوثات كثيرة أخرى في هذه القائمة السوداء لكي نقي أنفسنا وأبداننا من شرورها، وكل ما تتخذه أمريكا من إجراءات تنعكس على كل دول العالم فهي معظمها تحذو حذو أمريكا في مثل هذه الإجراءات. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :