في بلاط هشام ناظر - سليمان الجاسر الحربش

  • 11/23/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تذكرني سيرة المرحوم هشام ناظر بالمعاني التي سطرها أبو القاسم الشابي في قصيدته التي كنا نرددها ونحن زغب الحواصل: «إذا الشعب يوماً أراد الحياه»، بمعنى أن إرادة الإنسان في تحقيق أهدافه ليس لها حدودٌ مهما كانت هذه الأهداف. هشام ناظر كان أول محافظ للمملكة العربية السعودية لدى منظمة أوبيك بعد إنشائها في شهر سبتمبر 1960. وكان وقتئذٍ اليد اليمنى للوزير الأسبق الشيخ عبد الله الطريقي - رحمه الله - كان مجلس المحافظين في أوبك تلك الأيام هو المطبخ الرئيس الذي تشكلت بين جدرانه المنظمة التي عبرت لأول مرة عن إرادة سياسية مكبوتة لخمسة أقطارٍ من بينها واحدة لم تنل استقلالها بعد. كان وجوده في تلك الوظيفة أو المهمة على الأصح حدثاً يستحق التسجيل، إذ من النادر في ذلك الوقت أن تجد مواطناً سعودياً مثقفاً يتحدث الإنجليزية ببلاغة وطلاقة ملاحظة. تلك الوظيفة رشحني لها في عام 1990 ولبثت فيها ثلاثة عشر عاماً إلى أن انتقلت إلى عملي الحالي. لكن علاقتي بالمرحوم بدأت قبل ذلك بمراحل عندما التحقت بوزارة البترول عام 1962 وكان وقتذاك على وظيفة مدير الشؤون العامة، ثم أصبح وكيلاً للوزارة، وخلال هذه الفترة سافرت إلى القاهرة للدراسة وعدت من جامعة القاهرة عام 1966 فإذا بهم قد نقلوا وظيفتي وحوروها من مساعد أمين مكتبة إلى مسمى مساعد مستشار اقتصادي في الإدارة الاقتصادية التي كان يرأسها في ذلك الوقت المرحوم فاروق الحسيني. كنا نتكأكأ خمسة في غرفة واحدة هم: غازي بغدادي - رحمه الله - محمد المبيريك، هشام مندوره، أنس عبد الرحمن عثمان وأنا. وفي عام 1967 بعد النكسة دخل علينا اثنان من أركان الوزارة هما غرم الله الغامدي كبير الفراشين وإبراهيم النتيفي مأمور الصيانة - رحم الله الاثنين - وقالا بصوت واحد «يبيكم الوكيل»، هرعنا إلى مكتبه واستقبلنا بكل ترحاب لكن روح النكتة لم تفارقه، إذ أردف قائلاً: أهلاً وسهلاً، ثم كررها: أهلاً وسهلاً بالمحنطين. طفق يتحدث ونحن نستمع، قص علينا سيرته ومراحل دراسته ثم كيف يواجه أعباء الوظيفة وماذا يقرأ وكيف يقرأ ويسجل، وأشار إلى كراسة حمراء على يمينه وقال بنبرة مجازية لا تخطئها الأذن: هذا «إنجيلي» أسجل فيه كل شيء، وبعد هذه المقدمة سألنا عما نراه لازماً لكي نصبح على المستوى المطلوب في وزارة تختلف على حد قوله عن كل الدوائر الحكومية. خرجنا من عنده وتولى محمد المبيريك إعداد مسودة الطلبات التي وافقنا عليها فوراً (إذ من الصعب أن نقنع أبا هاني بأي تعديل). كان من بين الطلبات حضور المؤتمرات، اللغة الإنجليزية، الماجستير. في أواخر عام 1967 وبداية عام 1968 طلب معالي وزير التجارة عابد شيخ من وزارة البترول ترشيح أحد منسوبي الوزارة للمشاركة مع وفد المملكة في الدورة الثانية لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أنكتاد» في نيودلهي - الهند. هذا المؤتمر الذي كان يمثل تطلعات الدول النامية في تحقيق نظامٍ اقتصادي عادل. رشحني المرحوم لهذه المهمة وكانت تجربة فريدة في حياتي تطرقت إلى بعضها في مقالة رثيت بها المرحوم يوسف أديب الأعمى مدير إدارة التجارة الخارجية في الوزارة ورئيس الوفد، نشرتها صحيفة الاقتصادية بعنوان «يوسف أيها الصديق وداعاً». كان وفدنا مكوناً من المرحوم يوسف أديب الأعمى وفيصل البشير وبكري شطا، لكنهم جميعاً تخلفوا عن حضور المؤتمر أسبوعاً كاملاً ووجدت نفسي بمسمى وظيفتي مساعد مستشار اقتصادي أمثل المملكة العربية السعودية، وأكرم به من شرف، التقيت بشخصيات بارزة مثل عبد المنعم القيسوني (مصر)، يوجين روستو (الولايات المتحدة) وغيرهما. وسارت الأمور على ما يرام بفضل الله ثم بفضل السفير الأسطورة محمد الحمد الشبيلي الذي وفر لي كل أسباب النجاح. كنت أسجل كل شاردة وواردة ترقباً لليوم الذي أعود فيه إلى المملكة لأقدم تقريري للأستاذ هشام لأثبت له أننا نحن المحنطين قدها وقدود. لكننا ونحن في المؤتمر علمنا أن الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - عينه رئيساً للهيئة المركزية للتخطيط وخلفه في وزارة البترول المرحوم فهد الخيال وبقية القصة لا تهمنا في هذا السياق. وعندما تسنم منصبه في وزارة البترول وزيراً بدأ بتطبيق بعض الأفكار التي تراوده ومن أهمها بناء الطاقات البشرية فاستقطب عدداً من الكفاءات السعودية المؤهلة وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سلمان نائب وزير البترول والثروة المعدنية وصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن تركي المستشار في الوزارة ومعالي الدكتور مساعد العيبان وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء و معالي الدكتور ماجد المنيف والدكتور إبراهيم المهنا وغيرهم. كلفني خلال السنوات الأولى بعدد من المهمات منها ما هو في الداخل ومنها ما هو في الخارج ومن ذلك تمثيل المملكة في لجنة إستراتيجية أوبك للأمد البعيد مع أحد الزملاء الذي تطرق إليها بشكل مبتور في ندوة الإثنينية التي يرعاها الأستاذ عبد المقصود خوجه في جدة، ومع أن المرحوم أول من وضع أسس التخطيط في المملكة إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالتعامل في قضيةٍ تشترك بها أطراف دولية فإنه لا يميل إلى التقيد بأي خطة مسبقة، إذ إن ذلك في رأيه يفقده عنصر المناورة، وهي فكرة تستمد أساسها من خلفيته العلمية ودراسته في العلاقات الدولية، ومن يعمل في أوبك ويكتوي بنار خلافاتها السياسية يرى صحة هذا التخريج. في ديسمبر عام 1989 كنت معه وحدي في المدينة المنورة استعداداً للسفر إلى مسقط للمشاركة في قمة دول مجلس التعاون مع الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، واقتربت منه بشكل أكبر ونشأت بيننا علاقة فكرية اكتشفت خلالها مدى تعطشه للثقافة العربية المعاصرة وحرصه على متابعة ما تقذف به دور النشر العربية. كان حديث الناس في ذلك الوقت كتاب الحقيقة الغائبة للمرحوم فرج فودة، قدمت له نسختي وفرح بها بشكل شجعني بإمداده بهذا النوع من الكتب التي تخرج في منهجها عن المألوف، وبعد فترة أهديته النسخة الأصلية من كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وقد اقتنيتها من سوق الأزبكية في أوائل الستينيات، واستمرت العلاقة زمناً اكتشفت خلالها شخصيته المثقفة وحرصه الجاد على متابعة كل ما يعالج الشأن العربي المعاصر. في مسقط وقبيل الجلسة المغلقة في فندق قصر البستان طلب مني أن أرافقه في الممر المؤدي إلى قاعة الاجتماعات للسلام على خادم الحرمين الشريفين الملك فهد وهو في طريقه إلى القاعة، توقف الملك قليلاً وقدمني الأستاذ هشام له، سلمت عليه بالطريقة السعودية المألوفة، نظر إليَّ الملك - رحمه الله - بسرعة وقال بارك الله فيك ثم استأنف الخطو نحو القاعة. بعدها بأشهر أسند إليَّ مهمة محافظ المملكة في أوبك، وقد يكون اسم الوظيفة أكبر منها كما يقولون لكنها تتطلب في شاغلها ثلاثة شروط: الخبرة والمقدرة على التصرف من وحي اللحظة ثم التفويض وهذا الشرط الأخير مطلوب من من يصدر قرار التعيين أو الترشيح وهو في حالتنا الوزير المختص، وهنا أجد لزاماً عليَّ أن أنوه وأشيد بروحه العالية وعقله الواسع وأسلوبه الإداري السليم، ظهر ذلك في عدد من المناسبات المحرجة، منها أنني ترأست الدورة التاسعة والسبعين لمجلس المحافظين في أوبك وكان ذلك في شهر نوفمبر 1990 أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من احتلال العراق للكويت، ولقد جاء مندوب العراق ليطعن بشرعية تمثيل الكويت في المنظمة وكان عليَّ أن أحافظ على هدوء الجلسة وفي الوقت نفسه أرفض ما كان يود أن يسجله في المحضر، وقد طلبت من مندوبة الكويت أن تترك الموضوع لي وقد فعلت ومرت الأزمة بسلام، كان موقفاً مؤلماً ومخزياً خاصة أمام غير العرب. ومنها أنه في عام 1993 أجمع المحافظون في منظمة أوبك على التوصية بنقل مقر المنظمة من فينا إلا إذا وافقت الحكومة النمساوية على منح أوبيك مبنى بالمجان أسوةٌ بمنظمات الأمم المتحدة القاطنة في فينا. كانت المملكة هي الدولة الوحيدة التي اعترضت على هذه التوصية. جاءت العروض السخية من ثلاث دول، ناداني المرحوم في مكتبه ورمى إلي ببرقية أتته من الديوان وقال اقرأها ففعلت ثم استردها مني وقال لي بلهجته الجداوية بلا سؤال بلا... تصرف ما لي شغل قلت له سم طال عمرك. سافرت إلى فينا وسجلت موقف المملكة ثم عدت حسب التعليمات وقابلت السفير النمساوي في منزله ثم عقدنا جلسة في مكتبي في وزارة البترول أسرعت بعدها مباشرة لإخبار معاليه بما دار، وبعد أسبوعين تلقينا مكالمة من سكرتارية أوبك تفيد بأن الحكومة النمساوية قررت منح المنظمة مبنى بالمجان وهكذا كان. رحم الله الفقيد ذهب إلى ربه وبقيت محاسنه، كان وزيراً وإدارياً ومثقفاً ومواطناً ومحاضراً في الجامعة، وكان مبدعاً في كل هذه المجالات، من يجهله يظن أنه يصعر خديه أو أنه يمشي في الأرض مرحاً، ومن لا يفهم أسلوبه في الخطاب يسيئ فهمه، نعم أتفق مع من قالوا أنه يتمتع بشخصية كارزمية، وهذا صحيح في مجالسه الخاصة وبين أصدقائه وموظفيه كان منفتحاً صريحاً مرحاً لكن هذه الكاريزما تفلت منه للأسف عندما يكون أمام الأضواء وسبحان من له الكمال والدوام. غفر الله للفقيد ما تقدم من ذنبه وما تأخر. مقالات أخرى للكاتب كنتُ في مخيم شُعفاط على مائدة بان كي مون

مشاركة :