ما الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وأشباه المثقفين؟

  • 2/9/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تعجبني كتابات المفكر الفرنسي المعاصر روجيه بول دروا. وهو بالمناسبة أستاذ جامعي وباحث كبير وصحفي في جريدة اللوموند في آن معًا. فقد كان المسؤول عن القسم الثقافي فيها أو قسم مراجعة الكتب لسنوات طويلة. ويقال إنه نشر فيها أكثر من ألف مقال على مدار السنوات الماضية. ولا يزال يدبج مقالاته فيها بشكل منتظم عن القراءات والشخصيات والإصدارات الجديدة التي تعجبه. ومن أهم كتبه نذكر العناوين التالية: صحبة الفلاسفة، الفلاسفة الكبار: عشرون فيلسوفًا صنعوا القرن العشرين. الغرب مشروحاً للجميع، كيف يمشي الفلاسفة، ألخ.. وأخيرًا تاريخ مختصر للفلسفة. وهو الذي سنتوقف عنده هنا. ولكن قبل أن ندخل في صلب الموضوع دعونا نطرح هذا السؤال: ما هو الفيلسوف؟ هل هو شخص عبقري أم مجنون أم الاثنان معًا؟ هل هو شخص منخرط في الحياة العامة أم معتكف في برجه العاجي؟ على أي حال فهو ليس أستاذ الفلسفة على عكس ما نتوهم. هناك الفيلسوف وهناك أستاذ الفلسفة وشتان ما بينهما. فقد تكون أستاذًا للفلسفة لمدة ثلاثين أو أربعين سنة دون أن تصبح فيلسوفًا. فالسوربون مثلًا تعاقب عليها عشرات بل المئات من أساتذة الفلسفة المحترمين ولكن لم يبق لهم ذكر على صفحة التاريخ اللهم باستثناء قلة قليلة من أمثال بيرغسون. أما جان بول سارتر فلم يعلم في أي جامعة ومع ذلك فهو معدود من كبار الفلاسفة. منذ البداية يقول لنا المؤلف إنه دبّج هذا الكتاب بغية تسهيل الفلسفة على الجمهور العريض الذي يخشاها ويعتقد أنها غامضة بطبيعتها وعصية على الفهم. ولكنه يقول لنا إن هذه الفكرة خاطئة وإن أعظم الفلاسفة وأكثرهم تعقيدًا يمكن شرحهم بكلمات بسيطة واضحة. ثم إن الفلاسفة ليسوا كائنات شبحية من خارج الكرة الأرضية! وإنما هم بشر مثلنا من لحم ودم. وهم يفرحون ويتألمون ويعيشون نفس المشاعر والكوابيس مثلنا تمامًا. إنهم يسكنون نفس الكوكب الأرضي الذي نسكنه. ثم ينبغي أن نتذكر عندما نستعرض تاريخ الفلسفة أن عالم الأفكار ليس منقطعًا عن عالم الحياة أبدًا. فالأفكار الفلسفية أيًا تكن عبقريتها هي بنت عصرها وظروفه ومشاكله وهمومه وقضاياه. ولا يمكن فصلها عن كل ذلك. باختصار شديد: الفلسفة بنت عصرها. وحتمًا لو ظهر فولتير الآن لكتب بلغة أخرى ولدافع عن أطروحات أخرى غير التي دافع عنها في عصره. فالظروف تغيرت والأحوال تطورت وما كان صالحًا للقرن الثامن عشر لم يعد صالحًا للقرن الحادي والعشرين. نقول ذلك وبخاصة أن الأصولية المسيحية اختفت من أوروبا ولم يعد لها من وجود. فهل يحارب طواحين الهواء؟ ولكنها في عصره كانت جبروتية وقادرة على القمع والضرب والتخويف. ومعلوم أنه كرس حياته لمحاربتها ومحاربة الظلامية الدينية. ولكن الطائفية اختفت نهائيًا في فرنسا وعموم أوروبا فلماذا يحاربها؟ هل تحارب شيئًا غير موجود؟ لم يعد هناك أي كاثوليكي يحقد على جاره البروتستانتي أو العكس كما كان عليه الحال في القرن الثامن عشر أيام فولتير. كل هذا المفهوم المتعصب والطائفي للدين اختفى من أوروبا المستنيرة المتحضرة. وقد اختفى بفضل معارك فولتير وسواه من فلاسفة الأنوار الكبار. أما عندنا فالعكس هو الحاصل تمامًا. عندنا لا تزال الأصولية المتطرفة في عز مجدها. ولا تزال الطائفية أو المذهبية حادة وضارية وتمنع التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتع. بل إنها تسبب الحروب الأهلية المدمِّرة وتمنع تشكل الوحدة الوطنية للبلاد. وبالتالي فينبغي أن يظهر تنوير عربي قوي لعلاجنا منها. هكذا نلاحظ أن الفلسفة بنت عصرها ومجتمعها. فمشاكل المجتمعات العربية والإسلامية غير مشاكل المجتمعات الأوروبية المتقدمة التي تجاوزت مرحلة الطائفية كليًا. ولهذا السبب نقول ونكرر القول إن التفاوت التاريخي بيننا وبينهم يبلغ 200 أو 300 سنة. وإذا ما ظهر فولتير عندنا فلن يغير مواقفه ولا أفكاره إطلاقًا وإنما سيفعل تمامًا ما فعله في القرن الثامن عشر. وسوف يشن هجومًا ساحقًا على الأصولية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين مثلما شن هجومًا ساحقًا على الأصولية المسيحية في القرن الثامن عشر. ولكن ما هو الفرق بين الفيلسوف والإنسان العادي غير الفيلسوف؟ الفرق هو التالي: الإنسان العادي يتعايش مع الأفكار التي تلقاها عن عائلته وبيئته وطائفته بصفتها حقائق مطلقة بل ويتشربها ويعتنقها ولا يخطر على باله لحظة واحدة أن يراجعها أو ينتقدها. معاذ الله. هل تراجع ثوابت الأمة؟ هل تنتقد المقدسات؟ أما الفيلسوف فيفعل العكس: إنه يراجع كل الأفكار التي تلقاها من الأسرة والطفولة والكنيسة والجامع الخ ويتفحصها واحدة واحدة بعد الأخرى. فما ثبت أنه صالح يحافظ عليه وما تبين له أنه خاطئ يرفضه ويتخلى عنه حتى ولو كلفه ذلك غاليًا لأنه رضعه مع حليب الطفولة أو تلقاه كمقدسات في بيوت العبادة. هذا ما علمنا إياه ديكارت بشكل خاص. فقد خاض المعركة مع نفسه ومعتقداته على المكشوف وقال لنا: لا تقبلوا شيئًا إلا بعد غربلته وتمحيصه ووضعه على محك الشك والدراسة. ولكن جميع الفلاسفة الكبار يفعلون ذلك وليس ديكارت فقط. كلهم راجعوا أفكار عصرهم وانتقدوها وفككوها قبل أن يضيفوا أفكارهم وأطروحاتهم الجديدة التي غيرت وجه العالم. وبالتالي فالفيلسوف شخص منشق على عصره وطائفته وجماعته. إنه شخص منشق على نفسه! لماذا نقول ذلك؟ لأنه يدخل في صراع داخلي عنيف مع الأب – التراث. وهو صراع يؤدي إلى نزيف داخلي حاد. ليس من السهل أن تدخل في صراع مع ذاتك، مع والدك، مع تراثك، مع طائفتك ومذهبك. وبالتالي فالفيلسوف الحقيقي يختلف كليًا ليس عن الإنسان العادي فقط وإنما عن أشباه المثقفين أيضًا! فهؤلاء حتى ولو كانوا يحملون شهادات أكاديمية عليا من جامعات الغرب، وحتى لو عاشوا في باريس أو جنيف أو لندن أو نيويورك الخ عشرات السنوات، فإنهم يظلون مرتبطين عضويًا بعقائد جماعتهم أو طائفتهم. ولا يخطر على بالهم إطلاقًا أن يراجعوها أو ينتقدوها. أعوذ بالله! هنا بالضبط يكمن الفرق بين المثقف الحقيقي وأشباه المثقفين. لنضرب على ذلك مثلًا توضيحيًا سريعًا ولنعد إلى فولتير مرة أخرى. من المعلوم أنه كان ينتمي إلى طائفة الأغلبية في فرنسا أي المذهب الكاثوليكي البابوي الذي كان يشكل ثمانين بالمائة من عدد سكان فرنسا آنذاك. ومع ذلك فقد أمضى حياته في محاربته ومحاربة طائفته وجماعته لأنهم كانوا الأكثرية الطاغية ولأنهم كانوا يضطهدون أبناء الأقلية البروتستانتية التي كانت تشكل عشرين بالمائة من عدد السكان. ومعلوم أن الكاثوليك البابويين، على غرار الأكثريات عادة، كانوا هم الأكثر محافظة وتشبثًا بالمواقف التقليدية والظلامية للدين والتدين. ولهذا السبب كرس له المؤلف فصلًا كاملًا بعنوان: فولتير يدشن معركة المثقف من أجل الحقيقة. فالحقيقة بالنسبة له أهم من الطائفة والعشيرة وحتى العائلة. هنا تكمن خصوصية الفيلسوف أو المثقف الحقيقي. وهنا يتمايز كليًا عن أشباه المثقفين الغوغائيين الذين يمشون وراء القطيع بشكل أتوماتيكي. ونضرب على ذلك مثلًا آخر هو سارتر. فقد اتخذ في الخمسينات والستينات موقفًا صارمًا ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وكان موقفه من الراديكالية إبان حرب الجزائر إلى درجة أن الأعين احمرت عليه من قبل قادة اليمين الفرنسي الذين طالبوا ديغول بإخراسه على الفور أو اعتقاله. ولكن ديغول رد عليهم قائلًا: لا أحد يسجن فولتير! فذهبت مثلًا. وهي عبارة تدل على عظمة ديغول بقدر ما تدل على عظمة سارتر. هكذا نلاحظ أن الفيلسوف الحقيقي لا يتردد لحظة واحدة عن الوقوف ضد جماعته إذا ما كانت ظالمة أو جائرة أو طاغية. ومعلوم أن أغلبية الشعب الفرنسي آنذاك كانت تعتقد اعتقادًا جازمًا أن الجزائر فرنسية وأن أي شخص يتخلى عنها فهو خائن أو عميل. ومع ذلك فقد تصدى لهم سارتر وسار ضد عاطفة الشعب بل انضم إلى خندق العدو: أي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وهنا تكمن إحدى سمات المثقف الحقيقي الذي يخاطر بنفسه ويضعها على حد السكين من أجل الحقيقة والعدالة. يحصل ذلك إلى درجة أن الآخرين يعتبرون ذلك تهورًا بل جنونًا. من هنا الاعتقاد بوجود علاقة بين الفيلسوف والمجنون. والحق أنه لو لم تكن فيه “حبة جنون” لما تجرأ على مواجهة الإجماع الجبار للشعب الفرنسي. ومعلوم أن مؤسس الفلسفة سقراط كان أيضًا “ضد الشعب” بالمعنى الغوغائي للكلمة أو ضد الجمهور والقطيع. وقد اتهمته السلطة بأنه يشكك في الآلهة والمقدسات التي يؤمن بها الشعب. وأجبروه على تجرع السم الزعاف بسبب جدة أفكاره وخطورتها على الشبيبة في نظرهم. وقل الأمر ذاته عن بقية الفلاسفة الكبار. كلهم اصطدموا بشكل أو بآخر بسلطات عصرهم السياسية والدينية. وكلهم اصطدموا بشكل خاص بالجمهور الغفير أو بالمعتقدات الجبارة الكبرى المهيمنة على عصرهم كحقائق مطلقة أو كمقدسات في حين أنها أفكار خاطئة أو تقليدية متحنّطة ولم تعد صالحة. ولكن وحده الفيلسوف يرى أنها خاطئة. أما الآخرون فلا يكتشفون ذلك إلا بعد سنوات طويلة. وهذا يعني أن الفيلسوف شخص يستيقظ قبل الآخرين ويرى ما لا يُرى بالعين المجردة. إنه شخص يأتي قبل الأوان لكي يوقظ الناس. وأحيانًا يقتلونه لأنهم لا يريدون أن يستيقظوا وإنما يفضلون أن يظلوا نائمين نومة أهل الكهف. ثم إنهم لا يستطيعون تحمل التشكيك بمعتقداتهم العظمى التي جبلوا بها جبلًا وتربوا عليها وتشربوها مع حليب الطفولة. فسقراط لم يكن الوحيد الذي لقي هذا المصير وإن كان أول شهيد في تاريخ الفلسفة. وإنما أرسطو أيضًا كاد يُقتل لولا أنه هرب في جنح الظلام من أثينا قائلًا عبارته الشهيرة: “لن أدعهم يرتكبون جريمة ثانية ضد الفلسفة. يكفي أنهم قتلوا سقراط”! وجيوردانو برينو قتلوه في القرن السادس عشر لأنه أنكر بعض العقائد الدينية الأكثر رسوخًا. لقد قتلته محاكم التفتيش بشكل فظيع مرعب بعد أن قطعوا لسانه الذي جدف به الكفر وألقوه بعدئذ طعمة للنيران في أقبية الفاتيكان. ومؤخرًا اكتشفنا أن ديكارت نفسه مات قتلًا وليس بشكل طبيعي كما كنا نتوهم. لقد دسوا له السم الذي حرق أحشاءه حرقًا. وهكذا وقع في المصيدة هو الذي كان حذرًا جدًا ويتخذ كل الاحتياطات بل يغير منزله باستمرار ويعيش مختفيًا عن الأنظار تقريبًا. كل ذلك لم ينفعه في شيء. فقد وصلوا إليه في نهاية المطاف. كان يعرف أنه ملاحق ومهدد لأنه فجر قنبلة فلسفية موقوتة أطاحت بالعصور القديمة كلها ودشنت العصور الحديثة إلى درجة أن هيغل اعتبره البطل المقدام للفكر. وبالتالي فقد دفّعه الرجعيون الظلاميون ثمن جرأته الفكرية باهظًا. وجان جاك روسو دفع أيضًا ثمن مؤلفاته العبقرية غاليًا. فقد لاحقوه ملاحقات ضارية حتى جنّنوه. وهي المؤلفات التي كانت تُحرق في وقت واحد في باريس وجنيف وأمستردام وغيرها من العواصم الأوروبية. ولكنها أصبحت بعد ثلاثين سنة فقط الإنجيل المبجل للثورة الفرنسية!. عن كتاب (العرب بين الأنوار والظلمات) صادر عن دار المدى

مشاركة :