لم أجد أفضل من هذا العنوان للتعبير عن الحالة التي يعيشها قطاع كبير ممن يتابعون تعامل الأزهر مع الكثير من القضايا والردود عليها، حيث تتلقى مؤسسة الأزهر ضربات موجعة بعضها على صواب وبعضها الآخر على خطأ، وهو ما ينطبق على أداء المؤسسة العريقة التي نجدها وسطية ومعتدلة وداعمة للتنوير، ومتطرفة ومتكلسة وتقف حائلا أمام التطوير أيضا. أصبح الأزهر هدفا لدى البعض بالحق أو الباطل، وتبدو ردوده متسقة مع رسالته وضدها في آن واحد، ما أشاع أجواء من الالتباس بشأن الدور الذي يقوم به بسبب الارتباك في التصورات التي تظهر في خطابه أو التصرفات التي يقدم عليها، فقد أفضت تناقضاته إلى النزول به إلى درجة التشكيك في جدوى الدور الذي يقوم به. سمحت التوجهات التي يتبناها رئيسه أحمد الطيب بالحصول على معلومات واستنتاجات تؤكد محورية دوره في مصر، وأوحى حفاظه على التماسك نسبيا -على الرغم من مرور قرون على ظهوره- بقدرته على التكيف مع المستجدات والمرونة في التعامل معها. في المقابل قاد دخوله في تفاصيل صغيرة وإصدار فتاوى في الكثير من الموضوعات البسيطة إلى التقليل من أهميته، وأدى خوضه في قضايا هامشية إلى التأثير على رسالته الرئيسية، إذ يحلو لبعض شيوخه الانخراط في ملفات تفجرها مواقع التواصل الاجتماعي وتعبر عن خواطر أصحابها الشخصية في الحب والزواج والطلاق وضرب الزوجات، ويشتبك معها شيوخه كأنها تمثل جزءا بارزا في مهمتهم. يتجاهل هؤلاء قضايا دقيقة من قبيل تجديد الخطاب الديني ونفض الغبار عن التراث والتخلص من المتطرفين في داخله، وهي قضايا تسمح له بأن يعيد إحياء المهام التي يعول عليها بعض الحكام والكثير من المحكومين، فالموقف الذي وضع نفسه فيه يقلل من قدرته على مواجهة التحديات وينزع الدسم عن رسالته في تعميم التسامح. أصبح الأزهر مفترى عليه ومفتريا علينا، وما لم يحدد الفواصل في الدور والأغراض والآليات سيفقد الكثير من لمعانه الديني. ورغم أن المواجهة التي خاضتها الحكومة المصرية ضد الإرهاب والعنف والجماعات المتطرفة حققت جانبا مهما من أهدافها وقطعت الكثير من رؤوس الفتنة، فإن بصمات الأزهر غابت في هذه المعركة. لا تزال هذه المؤسسة العريقة مُصرة على التمسك بعاداتها، تلقي على الناس أزمة ويفتي شيوخها فيها ثم تتبدد الأمور انتظارا لحدوث أزمة أخرى، وهكذا. لا تعني التجاوزات التي ترتكب في حق الأزهر من جانب التيار المدني ونخبته الثقافية أن يتفرغ للعراك مع طواحين الهواء، بل تعني أن يحوّل ما يبدو أنه افتراء عليه إلى دافع للتجديد يبدو التعامل خفيفا وسطحيا وجافا ومؤقتا ويعتمد على العلاج بالمسكنات، والتركيز على الفروع بدلا من الوصول إلى الجذور وبترها، لذلك يتعرض لقضايا وهو يتبنى موقفا وتذهب إلى حال سبيلها وعندما يعود إليها مرة أخرى قد يقف في صف موقف مغاير. الازدواجية المتكررة أوجدت انطباعات قللت من حجم الأزهر كمؤسسة حظيت بهالة كبيرة في بعض المجتمعات الإسلامية، وما لم ينتبه إلى ما يحيط به من أمراض فسوف تتفشى ويفقد مصداقيته التي اكتسبها على مر العصور، فهناك بقايا من ثقة في الأزهر تحتاج إلى ضخ دماء جديدة في شرايينه الحيوية كي يتمكن من أداء رسالته الدينية، فالصعوبات التي يواجهها غير تقليدية وتتطلب تعاملا عصريا. قد ينجح ويخفق، أو يصيب ويخطئ، أو يهبط ويصعد، وهذه طبيعة في المؤسسات المصرية، لكن عندما يظل المنحنى مستمرا في النزول فهذه واحدة من العلامات التي يجب أن تدفع القائمين عليه، وفي مقدمتهم شيخه الدكتور أحمد الطيب، إلى انتفاضة حضارية تتسق مع الرهانات التي يضعها البعض عليه، فلا يزال يُنظر إليه على أنه رمز للوسطية سوف يؤدي استمرار النحر في جوانبه المختلفة إلى تآكل دوره تماما، بما يمنح مؤسسات أخرى فرصة أن تتولى دوره. لا أحد من المعتدلين يتمنى التفريط في الأزهر، ولا أحد من المخلصين يريد أن يبقى على حاله، فقد أصبح التساهل معه غير وارد لأنه في النهاية يقوم عليه أفراد لا نعرف الكثير عن دوافعهم التي تقودهم إلى تبني موقف من قضية ثم يتبنون موقفا مناقضا لها عندما تعرض عليهم مرة ثانية، كأن الحكم قابل للتغيير خلال فترة وجيزة. يفهم كثيرون أن الاجتهاد يسمح بالتفسير حسب السياقات، إلا أن التباين المستمر في المواقف من القضايا المتشابهة والتأويلات المتغيرة يفتح الباب لعدم الاعتداد بالأزهر كمؤسسة معتدلة تقديراتها واضحة ومحددة وعندما تتغير يكون ذلك لظروف قهرية، أما التبدل الدائم فيدل على عدم وجود عافية حضارية ويشير إلى حجم ما يدور داخله من ارتباك. يحظى الأزهر باستقلالية في منظومة الحكم داخل مصر عصمته من التعرض للكثير من موجات الهبوط التي طالت مؤسسات شاخت في مواقعها، وعدم تقديره لهذه الميزة يؤدي مع الزمن إلى فقدانه حصانة حصل عليها بموجب الدستور، وما لم يكن منسجما مع تطلعات وضعتها القيادة السياسية في مصر عليه ربما تجد نفسها مضطرة إلى رفع الغطاء ونزع ما يشبه القداسة عنه إذا حان الوقت لإجراء تعديلات في الدستور الحالي. تتجاوز تداعيات هذا الإجراء أبعاده المصرية، فقد شاهدت بنفسي الهالة التي يحظى بها في إندونيسيا عندما زرتها منذ سبعة أعوام، وكان معي في الرحلة أحد علماء الأزهر وجرى التعامل معه باعتباره ممثلا للشيخ أحمد الطيب بطريقة تدل على أن هذه المؤسسة تحظى بمكانة لافتة في الوجدان الرسمي في جاكرتا، ناهيك عن الشعبي. إذا لم ينظر الأزهر إلى دوره بحسبانه مؤسسة سنية عابرة للحدود، يجب أن تهمّ رسالتُها مصرَ وغيرها من الدول العربية والإسلامية، فسوف يواجه انخفاضا ملحوظا في مستوى التأثير العام، وربما يجد نفسه أمام مطالبات عاجلة بتحويله إلى جهة وقفية، وتتلاشى عنه المكتسبات المعنوية التي حققها على مدار قرون. قد تكون هناك أصوات تهمس الآن للوصول إلى صيغة من هذا النوع، يمكن أن ترتفع إذا لم يقم الأزهر بتطوير واسع في هياكله يتناسب مع التحولات الجارية في حركة مجتمعات إسلامية تتعرض لموجات عارمة من الاجتهادات، يمكن أن تسحب البساط من تحت أقدامه ويتحول إلى مؤسسة غير قادرة على القيام برسالتها ويصيبها الإهمال. لا تعني التجاوزات التي ترتكب في حق الأزهر من جانب التيار المدني ونخبته الثقافية أن يتفرغ للعراك مع طواحين الهواء، بل تعني أن يحوّل ما يبدو أنه افتراء عليه إلى دافع للتجديد، بدلا من مواجهة الافتراء بافتراء أشد يصيب الناس بالمزيد من الإحباط.
مشاركة :