كلما ورد ذكر درنة ينساب جدول الشعر والشاعرية حول مدينة تمثل عنوانا للجمال والبهاء والجاذبية في محيط ساحر بأبعاده الخلابة يمتد على مسافة من روعة الطبيعة وعبقريتها في شمال شرق ليبيا، حيث الجبل الأخضر في عناقه مع البحر، وانزياحاته نحو الصحراء المترامية إلى الجنوب، ولذلك فمن الطبيعي أن يطلق الحديث عن درنة العنان للحديث عن الشعر والموسيقى والمالوف والمسرح وعن الشلالات والغابات والشواطئ المدهشة، والآثار الضاربة في التاريخ وبصمات الإنسان الأول وهي تنسج خيوط الأزمنة البعيدة. يشطر المدينة مجري الوادي الحامل اسمها إلى شطرين، وهو أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا، ويحفل محيطها الجغرافي بمميزات مبهرة، فإلى الجنوب منها بحوالي سبع كيلومترات، تتدفق المياه العذبة من شلال يصل ارتفاعه إلى 30 مترا، وإلى الشرق منها منتجع راس هلال الذي تلتقي عنده الغابة مع البحر ليشكلا منظرا جاذبا لعشاق الطبيعة والحالمين بلحظات السكينة في أحضانها، هناك تنتشر أشجار القطلب المعروفة محليا باسم الشماري وهي شجرة برية لها ثمار حلوة المذاق ومغذية تسمّى العجور، لونها برتقالي يميل إلى الأحمر عند نضجها خلال فصل الشتاء حيث يتسابق السكان المحليون لتذوقها وجني ثمارها، ويعتبر رحيق أزهارها من أفضل ما يمكن أن يتغذى منه النحل لإنتاج عسل ”الحنّون“ الذي يمتاز بمرارته ليكون بلسما للكثير من الأمراض. وغرب درنة، تتدفق الينابيع والعيون بالماء العذب من أعالي الجبال، ومنها وادي الإنجيل، حيث كان يختبئ القديس مرقس الرسول ليكتب الإنجيل المعروف باسمه وهو واحد من الأناجيل القانونية الأربعة وواحد من الأناجيل الإزائية الثلاثة، يحكي مسيرة يسوع من المعمودية على يد يوحنا المعمدان إلى الموت والدفن واكتشاف القبر الفارغ، وينتهي إلى الحديث عن نهاية الزمان وما سيحدث عند رجوع المسيح ثم يسرد الاَحداث المتعلِّقة بآلام المسيح وموته وقيامته وصعوده إلى المجد، ويؤكِّد على مساندة المسيح لتلاميذه فيما هم ينشرون البشارة في العالم أَجمع. ابنة التاريخ العتيق ◙ درنة اليوم تسترد أنفاسها كمدينة للفن والجمال والإبداع والرقي الاجتماعي درنة أسسها الإغريق خلال العصر اليوناني وبالذات في الفترة الهيلينستية، وتُدعى في تلك الفترة إيراسا والتي انضمت فيما بعد إلى المدن الأربع لتنشأ مملكة من خمسة مدن مزدهرة ومعروفة، ثم وفي فترة الحكمين الروماني والبيزنطي تعرضت المدينة لحالة من الركود والانحطاط ما لبثت أن تجاوزتها لتلعب دورا حيويا في الحقبة العثمانية ولاسيما في أوائل القرن السابع عشر في فترة حكم الأسرة القرمنلية، وبرزت خلال ما عرفت باسم حرب السنوات الأربع، حيث هيمنت درنة على كل من مدينة بنغازي والمرج المدينتين الرئيسيتين في تلك الفترة. وأول من ذكر اسم درنة هو كلوديوس بطليموس، وهو رياضي وعالم فلك وجغرافيّ ومنجم وشاعر إبيجراما في الأنطولوجيا الإغريقية، حيث أشار إلى أن برقة تنتهي شرقاً مع حدود مارماريكا على السمت من منفذ درنة. وقد كان البطالمة كثيراً ما يسمّون المدن التي ينشئونها أو وقعت تحت حوزتهم بأسماء ملوكهم وملكاتهم أو بعض معبوداتهم ، ولم يعرف عن معبود أو حاكم أو ملك أو ملكة من اليونان سواء في عهد اليونان الأول أو في عهد البطالمة يحمل اسم ”دارنس“ مما يرجّح أن هذه الاسم ليبي الأصل أبقاه البطالمة على أصله القديم وأضافوا إليه حرف ”أس” الذي هو علامة الرفع للاسم المذكر في اللغة اليونانية. وفي كتابه ”قراءات ليبية“ يقول علي فهمي خشيم ”أما دارنس فهي مدينة درنة الحالية وهي كلمة ليبية أيضاً ربما تعني ‘بين الجبال’ أو ‘وسط الجبال’ كما هو موقع درنة، ولا تزال كلمة ‘أدرار’ القديمة تعني الجبل ، وتعني كلمة ‘الأدورماخيداي’ أهل الجبل أو سكانه“. وقد تتبع بيتس في كتابه الكبير ”الليبيون الشرقيون“ أصول اللغة الليبية القديمة وما بقي منها فوجد كلمة ”إيراسا“، والتي ذكر هيرودوت أن اليونان هبطوا فيها قبل قورينا تعني المهبط أو المرسى. وقد ظلت درنة مركزا إداريا وتجاريا هاما في فترة حكم الأسرة القرمنلية بفضل مينائها وأراضيها الزراعية الخصبة إضافة إلى حركة التبادل التجاري، الإداري والثقافي مع المغرب العربي والشرق الأدنى، ولكنها لم تحظ بأيّ تميز خلال فترة الاحتلال الإيطالي إلى أن أتت الحرب العالمية الثانية، حيث وقعت تحت سيطرة القوات الأسترالية التابعة للجيش البريطاني في الثلاثين من يناير 1941 في حملة شمال أفريقيا، قبل أن يستردها النازيون الألمان المتحالفون مع الإيطاليين في السادس من أبريل 1941، ثم عاد البريطانيون وتمكنوا من استعادتها من جديد. ثراء من نوع خاص تتميز درنة بنسيج اجتماعي ثري، حيث كانت عاصمة لمحيطها الديمغرافي من القبائل البدوية، وكذلك من الأقليات ذات المرجعيات الثقافية المتعددة لتكون بذلك ساحة للتنوع الحضاري، ومن بين القبائل التي تستوطن المدينة بدر والطشاني من التواجير، وشنيب ووربي من الطواهر، والعوامي والمسماري والشواعرة من المرابطين، وبوجيدار من الدرسة، والبراعصة والحاسة وعزوز من الأندلس، وبن خيال وبن حليم من زليتن، والمريمي والمنصوري وغيث من العبيدات، وأسديسي من ورفلة، وبوخشيم من مصراته. ويبقى من المثير للانتباه، أن درنة كانت من المدن الليبية السباقة في احتضان التطرف، حيث شهدت جبالها وكهوفها معارك بين قوات النظام والجماعات الإرهابية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، ولاسيما مع العائدين من حروب أفغانستان. وبعد العام 2003 أصبحت درنة منطلقا للمقاتلين، وخاصة الانتحاريين، المتجهين إلى العراق، وهو ما أكدته وثائق أميركية تم الكشف عنها في العام 2008 حيث أشارت إلى أن حوالي 60 في المائة من الجهاديين الذين يأتون من ليبيا هم من مدينة صغيرة شرق ليبيا تسمى درنة، وحوالي 80 في المئة من الليبيين الذين يختارون القيام بعمليات انتحارية يتحدرون من هذه المدينة، الأمر الذي لفت نظر المتابعين والمحللين. زمن جديد ◙ التنوع الحضاري وتعدد الآثار المسيحية والإسلامية يفسح أمام درنة المجال حتى تتحول إلى عاصمة سياحية ثقافية وعندما انطلقت التحركات الاحتجاجية ضد نظام القذافي، سيطرت الجماعات المتشددة منذ الساعات الأولى للأحداث على مدينة درنة، وبعد خمسة أيام فقط، خرج نائب وزير الخارجية الليبي آنذاك خالد الكعيم ليعلن لوسائل الإعلام بأن تنظيم القاعدة أقام “إمارة إسلامية” في درنة بقيادة معتقل سابق في غوانتانامو، وأضاف الكعيم “أقامت القاعدة إمارة في درنة بقيادة عبدالكريم الحصادي وهو معتقل سابق في سجن غوانتانامو الأميركي“، مؤكداً أن التنظيم الإرهابي يفكر في سيناريو “على طريقة طالبان” في ليبيا. وأوضح أن الحصادي له مساعد مقيم في مدينة البيضاء وهو عضو أيضاً في القاعدة ويدعى خيرالله البرعصي. ونقل مقربون عن المستشار عبدالعزيز الحصادي المحامي السابق وأول نائب عام بعد السابع عشر من فبراير 2011 أنه كلما صدر تكليف سري من قيادة الأركان في طرابلس لأحد القيادات الأمنية أو العسكرية بمراقبة الوضع في درنة يتم اغتياله، مما يشير إلى وجود أطراف تسّرب المعلومات السرية إلى الجماعات المسلحة، وفي الثامن من فبراير 2014 اغتيل المستشار الحصادي برصاص مجهولين بوسط مدينة درنة. تغير المشهد العام في درنة، وأصبح السواد يعمّها، وخطاب السلفية المتشددة يتحكم في مفاصل الحياة بها، ففي أبريل 2012، أسس السائق السابق لأسامة بن لادن بأفغانستان سفيان بن قمو تنظيم ”أنصار الشريعة” في درنة بالتوازي مع فرع بنغازي بقيادة محمد الزهاوي، حيث تم استقطاب مسلحين ليبيين ومن جنسيات أخرى، وتحولت درنة رسميا إلى قندهار ليبيا، حيث خيّم عليها سواد الرايات، وفتحت مراكز التدريب على القتال، وأغلقت محلات الزينة، ومنع الاختلاط في المدارس ومؤسسات العمل، كما منعت المرأة من قيادة السيارة، ودخلت المدينة في فوضى الاغتيالات والتصفية الجسدية ضد كل من عمل في النظام السابق وخاصة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية. بعد ذلك أعلن مجلس شورى “شباب الإسلام” في درنة مبايعته لأبي بكر البغدادي وعن تحويل المدينة إلى ”إمارة إسلامية“ تابعة لتنظيم داعش، ودعا المجلس إلى تجمّع جماهيري في ”ساحة الصحابة“ وسط المدينة لإبلاغ السكان بقرار ”المبايعة“ الذي ترافق مع عرض عسكري لـ”شرطة الإسلام“، هدفه إظهار الانضباط والسيطرة. تبنى مجلس الأمن قرارا جاء فيه إدراج ما يعرف بتنظيم ”أنصار الشريعة في ليبيا“ على القائمة السوداء للتنظيمات الإرهابية بسبب ارتباطه بتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، ولتورطه في الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي في 2012، وقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وقتها أوراقا تفيد بأن التنظيم أقام العديد من معسكرات التدريب لإرسال جهاديين إلى العراق وسوريا بالدرجة الأولى، وإلى مالي بدرجة ثانية، إلى جانب تورطه في الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، وقتل السفير الأميركي و3 من أعضاء البعثة الدبلوماسية الأميركية في ليبيا. درنة في عين العاصفة وفي الثاني عشر من ديسمبر 2014 تم تشكيل ما يسمى بمجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها، وهو تحالف للجماعات الإرهابية ضم كلا من ميليشيا ”أنصار الشريعة“ في درنة وميليشيا ”جيش الإسلام“ وميليشيا ”شهداء بوسليم“، وتولى زعامة التحالف عضو الجماعة الليبية المقاتلة سالم دربي الذي أكد آنذاك أن هدفهم من التحالف هو التصدي لعملية الكرامة التي أطلقها الجيش الوطني ضد الميليشيات الإرهابية في مايو 2014. وأعلن مجلس شورى مجاهدي درنة أنه جزء من عملية ”فجر ليبيا“ التي أطلقتها ميليشيات مسلحة تابعة لجماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة غربي البلاد في يوليو 2014 في إطار انقلاب الاسلاميين على نتائج الانتخابات البرلمانية التي عرفتها البلاد في الخامس والعشرين من يونيو من العام ذاته، وشهدت فشلا ذريعا للتحالف الإخواني. في تلك الأثناء، كان الجيش الوطني الليبي يقود معارك طاحنة ضد الجماعات الإرهابية في بنغازي، من خلال عملية الكرامة التي أطلقها المشير خليفة حفتر في مايو 2014 وكانت درنة من أبرز الأهداف الرئيسية للجيش الوطني، ونفذ الطيران الليبي غارات جوية على مواقع تمركز الإرهابيين بالمدينة انتقاما لضحايا تفجيرات بسيارات مفخخة استهدفت بنغازي وطبرق، وأعطيت الأوامر للجيش الليبي بالهجوم البري على درنة، حيث تحركت وحدات عسكرية مسافة كيلوميترات قليلة داخل المدينة لتستعيد السيطرة على بعض القرى والطرق الرئيسية، كما بدأت طائرات أميركية من دون طيار وطائرات مراقبة إلكترونية بالقيام بطلعات مستمرة على درنة من القواعد الإيطالية. وقالت الحكومة الليبية المنبثقة عن مجلس النواب الليبي إنها ستشن هجوما على مدينة درنة، لطرد عناصر داعش والجماعات المسلحة من المدينة، ما دفع بقوى الإسلام السياسي في غرب البلاد إلى إقناع مجلس شورى مجاهدي درنة بطرد مقاتلي داعش من المدينة لسحب أيّ مبرر للهجوم عليها، وهو ما رأى فيه المراقبون محاولة لذر الرماد على العيون، خصوصا وأن تنظيم القاعدة لا يقل إرهابا عن تنظيم داعش، غير أن أحمد المسماري المتحدث باسم الجيش الليبي أبرز أن ليبيا كانت أول دولة في المنطقة والعالم يصل فيها تنظيم القاعدة إلى السلطة علنا بعد الإطاحة بالنظام السابق، من خلال التحالف القائم بين الإخوان والجماعة المقاتلة بزعامة عبدالحكيم بالحاج، حيث سيطر مسلحون عائدون من أفغانستان وغوانتانامو على مراكز مهمة في دواليب الدولة، ومنها الداخلية والدفاع والمخابرات والسجون، إضافة إلى لجان مهمة داخل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته. تحوّل استراتيجي ◙ منظر جاذب لعشاق الطبيعة والحالمين بلحظات السكينة في أحضانها بعد مواجهات عنيفة مع الجماعات الإرهابية استمرت لأكثر من عامين، أعلن حفتر في التاسع والعشرين من يونيو 2018 تحرير مدينة درنة من الإرهابيين، وقال في خطاب متلفز “نعلن بكل فخر تحرير مدينة درنة الغالية على كل نفوس كل الليبيين وعودتها آمنة مطمئنة إلى أحضان الوطن لتعم الفرحة كافة أرجاء ليبيا”. جاء ذلك الحدث بعد سبع سنوات من حكم تنظيم القاعدة، وفترات خضعت فيها المدينة لسيطرة داعش، وبعد أن كتب الإرهاب صفحات دموية لن ينساها التاريخ، سواء من خلال الاغتيالات أو التصفيات الجسدية وقطع الرؤوس في الساحات العامة، ودفن الجثث في غابة ”أبومسافر“ الواقعة بالمدخل الغربي في المدينة والتي تحولت من جنة خضراء توحي بالحياة والخصوبة إلى مقبرة للغرباء ممن اعترضتهم قوافل الإرهاب برايات الموت والخراب. لقد كان تحرير درنة إعلانا عن نهاية الخطر الإرهابي في شرق ليبيا، وهو ما أحدث بالفعل تحولا استراتيجيا مهما أثّر لاحقا في التوجه العام نحو السلام والمصالحة، واليوم تستعيد درنة وجهها الليبي العريق وتسترد أنفاسها كمدينة للفن والجمال والإبداع والرقي الاجتماعي وكقبلة لليبيين الراغبين في اكتشاف أسرارها وسبر أغوارها والتمتع بزلال مائها وخضرة أشجارها وزرقة سمائها وطبية أهلها وتنوع آثارها. بينما يرى الخبراء الأجانب في محيطها الطبيعي وامتداداتها الجغرافية الساحرة مصدرا لتاريخ قد تتم كتابته من جديد، حيث من الصعب العثور على كل ذلك الجمال الطبيعي في مناطق أخرى، كما أن الغنى الثقافي والروحي والتنوع الحضاري وتعدد الآثار المسيحية والإسلامية في منظومة تلفّها روعة الجبل الأخضر في عناقه السرمدي مع البحر شمال والصحراء جنوبا، يفسح أمام المدينة المجال حتى تتحول إلى عاصمة سياحية ثقافية سواء في ليبيا أو خارجها.
مشاركة :