شهد الأسبوع الأول من شهر فبراير حدثين أفريقيين بامتياز؛ الأول اختتام منافسات واحدة من أصعب النسخ بتاريخ بطولة كأس الأمم الأفريقية، والتي أقيمت في الكاميرون، والثاني انعقاد القمة الأفريقية الـ 35 في أديس أبابا.. وبين القمة والبطولة، تجسدت آلام القارة السمراء، من انقلابات وخطر الإرهاب، والنزاعات الداخلية، والأزمات البينية، التي تجمع دولها. في أفريقيا، حيث طموحات الشعوب تُبددها التوترات الأمنية والسياسية، ترتسم صورة حقيقية لـ«أرض النيران»، تلك الأرض الحبلى بالأزمات المشتعلة التي كلما هدأت في مكان تفجّرت في آخر، وسط تباين واضح في مدى التقدم المُحقق على صعيد الاستقرار في دول القارة؛ فبينما لا تزال دول مختلفة -لا سيما في إقليمي غرب وشرق القارة- تمزقها النزاعات والتوترات العرقية والقبلية جنباً إلى جنب والتهديدات الإرهابية، ثمة دول أخرى- مثل مصر- أدارت ظهرها لمشهد الاضطرابات المعقد، الذي يغلف الأوضاع بالقارة، ومضت قدماً في طريق الاستقرار. معدلات وأرقام الضحايا، التي تكشفها المراصد المعنيّة برصد الوضع الأمني بالقارة، إنما تعكس وضعاً مفجعاً لجهة تصاعد العمليات المسلحة، التي تأتي ترجمة للأوضاع الأمنية المتوترة بالداخل، وكذلك عدد الضحايا من المدنيين والعسكريين ممن يدفعون ثمناً لهذه الحالة المعقدة، وسط تساؤلات ما فتئت تفرض نفسها على الساحة، بشأن مستقبل القارة في ضوء تلك العوامل، التي تؤزم الأوضاع بشكل أكبر هناك. المراصد تقول: إن القارة خسرت في العام 2021 أكثر من عشرة آلاف ضحية (قتلى) بخلاف المصابين والمختطفين والمهجرين قسرياً واللاجئين، على وقع النزاعات الداخلية والهجمات الإرهابية. كان شهر مارس الأعلى من حيث معدلات الضحايا بأكثر من 1835 قتيلاً، يليه شهر أغسطس بحوالي 1313 ضحية. شكلت دول غرب أفريقيا- على وجه الخصوص- النصيب الأكبر لجهة عدد الضحايا، تتقدمهم نيجيريا، التي ترزح تحت وطأة إرهاب «بوكو حرام»، والتي قد سجلت أكثر من 1150 قتيلاً (منهم 201 قتيل في هجمات سجلتها أبوجا في شهر يونيو وحده)، فيما لا يزال عدّاد القتلى جارياً، إذ سجلت نيجيريا في الشهر الأول من 2022 سقوط 302 قتيل، من إجمالي 785 شخصاً لقوا حتفهم، خلال شهر يناير في القارة السمراء جراء الأوضاع الأمنية المتوترة، طبقاً لما تظهره إحصاءات مؤسسة ماعت بالقاهرة. تحولات أفريقية وجديرة بالدراسة تلك التحولات، التي شهدها الإرهاب في القارة الأفريقية، لا سيما في الأعوام العشرة الماضية، من العام 2011 وحتى العام 2021، وهي التحولات التي عززتها عدة عوامل رئيسية؛ أجملتها خبيرة الشؤون الأفريقية بالبرنامج الأفريقي التابع لوحدة الدراسات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الدكتورة أميرة محمود عبد الحليم، في دراسة حديثة لها، قسمت خلالها تلك العوامل إلى: عوامل محلية (داخلية)، وأخرى خارجية. أما العوامل المحلية، طبقاً للباحثة، فمرتبطة بالأساس بجملة المتغيرات الداخلية التي شهدتها دول القارة، من بينها أزمة الدولة الوطنية، وتمدد الجماعات الإرهابية وانتشار الصراعات الداخلية، وقد أبرزت في هذا الإطار دولة مالي (في غرب أفريقيا) كنموذج تجتمع فيه الصراعات (بين الطوارق والحكومة المركزية)، والإرهاب الممثل في هجمات حركة شباب المجاهدين، كما أبرزت الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها الدول الأفريقية، والتي كانت عاملاً من العوامل الأساسية التي تستقطب من خلاله التنظيمات الإرهابية الشباب. وشهدت مالي في العام 2021 ما لا يقل عن 378 قتيلاً خلال 12 شهراً (بواقع أكثر من 31 قتيلاً شهرياً) جراء الأوضاع الأمنية المتوترة، كجزء من التوتر الأمني الواسع، الذي يشهده إقليم غرب القارة بصفة خاصة. ومن ضمن العوامل المحلية الأخرى، طبقاً لنائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، السفير صلاح حليمة، ما يتعلق بارتفاع نسب الفقر والبطالة في كثير من الدول الأفريقية، وكذلك نسب الأمية، الأمر الذي يفاقم التوترات الداخلية، ويجعل من عديد من دول القارة أرضاً خصبة لتنامي الإرهاب. صراعات أما لجهة العوامل الخارجية فتشير دراسة الدكتورة أميرة عبد الحليم إلى مسألة ارتباط قارة أفريقيا (بسبب العوامل المكانية) بمركز الصراعات في الشرق الأوسط، الأمر الذي سهّل من عملية انتقال العناصر الإرهابية إلى دول القارة. وتضيف إلى ذلك بعد «الأطماع الخارجية»، والتي أدت لذرائع أجنبية من أجل التدخل الواسع في شؤون دول القارة. وهنا يتحدث السفير حليمة عن «أطراف خارجية تغذي وتدعم الفكر المتطرف في القارة، ومن مصلحتها انتشاره» من ضمن العوامل الخارجية، التي تفرض تداعياتها نفسها على الأوضاع بالقارة. وبالتالي فإن مستقبل الأوضاع الأمنية في أفريقيا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك العوامل (الداخلية والخارجية)، التي تتأثر بها الدول الأفريقية بشكل مباشر. وبموازاة ذلك، فإن «حالة الاقتتال على أساس عرقي، التي تشهدها بعض دول القارة أصبحت لا تقل خطورة عن الإرهاب والفكر المتطرف»؛ ذلك أنه تتزايد حدة الهجمات الدموية بين العرقيات المختلفة- مثلما حدث في إثيوبيا ونيجيريا على سبيل المثال- طبقاً لما يؤكده الخبير الحقوقي الدولي الدكتور أيمن عقيل، والذي يشدد على ضرورة اتخاذ تدابير داخلية من أجل التصدي لتلك الظاهرة. من بين تلك التدابير المهمة مسألة تفعيل مبادئ الحوار، والعمل على رفع الوعي بين الشباب الأفريقي لحل الخلافات العرقية، ومن ثم الحد من انتشار الأفكار الإرهابية، لا سيما أن تلك التنظيمات المنتشرة بالقارة تستغل تلك الحالة، من أجل جذب الشباب، بما يفاقم الأزمات الأمنية الداخلية. وعلى رغم أنه عادة ما يُنظر إلى الضربات الأمنية الناجعة لرؤوس الإرهاب في أفريقيا باعتبارها خطوات قد تسهل مأمورية تطهير القارة من آفة الإرهاب القاتلة، بما يسهم بشكل أو بآخر في رسم مستقبل أفضل لأفريقيا، إلا أن الدراسة المشار إليها لفتت إلى أن العام 2020 والعام 2021 وعلى أن القارة شهدت خلالهما مقتل عديد من قادة الجماعات الإرهابية، إلا أن ذلك الأمر «ينذر بتحولات مستقبلية خطيرة في إطار هياكل الجماعات وأهدافها وسيطرتها المكانية». وهنا يتحدث الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة والإرهاب الدولي منير أديب، عن ضرورة معالجة الأسباب الأساسية، التي تغلغل استغلالاً لها الإرهاب في القارة، بدءاً من العوامل السياسية والاقتصادية والفكرية، ووصولاً لضبط الحدود وحتى التدخلات الخارجية بالقارة، كأساس ضروري لا غنى عنه، بالتزامن مع الجهود الأمنية وعمليات مكافحة الإرهاب. استراتيجيات جديدة ومن ثمّ، يتحدد مستقبل الأوضاع في القارة، فيما يخص مكافحة الإرهاب، بعدد من المحاور الأساسية، طبقاً لتوصيات الدراسة المذكورة؛ أهمها إعادة صياغة استراتيجيات جديدة لمكافحة الإرهاب تتفق فيها الدول الأفريقية على تعريف الظاهرة (لا سيما أنه لا يوجد تعريف متفق عليه، بما يشتت جهود الدول الأفريقية)، مع ضرورة عدم السماح بتنصل الدول غير المتضررة من الإرهاب من مسؤولياتها، على أن تعتمد هذه الاستراتيجيات إلى جانب الأدوات العسكرية والأمنية، العمل على معالجة الأزمات، التي تسمح بنمو الجماعات الإرهابية داخل القارة الأفريقية، بحيث لا تتحول أراضي القارة إلى مفرخة للإرهاب الذي لا يتورع عن هدم أي مقومات للتنمية والتقدم. وبموازاة ذلك، لا يعتقد مدير المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية بواشنطن، جوزيف سيغل، أن تلك الإجراءات المرتبطة بصنع مستقبل القارة ومواجهة التحديات أمراً سهلاً، ذلك أنها تستغرق وقتاً وتتطلب جهداً أكبر من أجل القضاء على تلك التهديدات التي تلف القارة السمراء، والتي وجدت فيها التنظيمات الإرهابية بيئة خصبة للانتشار. ويضيف إلى عوامل المواجهة أهمية بناء القدرات الأمنية في دول القارة الأفريقية بشكل عام، من أجل القضاء على تلك التهديدات التي تواجهها القارة، وهو ما يتطلب حلولاً مختلفة بالمجتمعات المحلية، مع ضرورة كسب الحكومات ثقة هذه المجتمعات، بالإشارة إلى أن «شرعية الحكومات أمر بالغ الأهمية»، في إشارة لظاهرة الانقلابات، التي تشهدها القارة، والتوترات السياسية، التي تعاني منها أنظمة الحكم في عدد من دول القارة وسط الخلاف على شرعيتها. ويستطرد: «إذا كان يُنظر إلى الحكومات على أنها تمتلك أساساً قانونياً للسلطة، وتعمل لمصلحة المواطنين فستكسب تعاون المجتمعات المحلية، وهذا يشمل التمسك بسيادة القانون مع توفير الحماية من الأعمال الانتقامية التعسفية أو العقاب الجماعي للمجتمعات، سيمكن ذلك الحكومة من تأمين والحفاظ على وجودها، وإجبار الجماعات المتطرفة العنيفة في النهاية على التفكك». تابعوا أخبار العالم من البيان عبر غوغل نيوز طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :