في العلاقات الدولية، يوفر تصعيد المواجهات بين دولتين، سواء على الصعيد الجيوسياسي أو الإقليمي أو الاقتصادي، الفرصة للقوى العالمية والأطراف المعنية لمحاولة التوسط في التوترات، والتقليل من مخاطر اندلاع نزاع مسلح. ويُشار إلى هذه الجهود لدى الغرب باسم «إدارة الأزمات». ومن أبرز أمثلتها، أزمة «الصواريخ الكوبية» عام 1962، و«الدبلوماسية المكوكية»، التي اتبعها وزير الخارجية الأمريكي، «هنري كيسنجر» في الشرق الأوسط أوائل السبعينيات. ومقارنة بالأمثلة السابقة في إدارة الأزمات، فإن الجهود السياسية الغربية الحالية لتجنب اندلاع نزاع مسلح بين روسيا وأوكرانيا «تبدو ضعيفة». وحتى الآن، فشلت المحادثات والمفاوضات التي استمرت شهورًا؛ فيما زادت التوترات، بعد أن حشدت موسكو قواتها على الحدود بين البلدين، وتصاعدت الأحداث لدرجة أن الولايات المتحدة وحلفاءها يحذرون الآن من غزو وشيك. وقبل تحديد أوجه القصور والإخفاقات السياسية الغربية في إدارة هذه الأزمة، يجب أولا توضيح ماهية الإدارة الناجحة للأزمات. وفي جوهرها، تُعنى إدارة الأزمات الناجحة، «بتجنب صراع مسلح، وإقامة سلام طويل الأمد قدر الإمكان». وكما أوضح «لورانس فريدمان»، من جامعة «كينجز كوليدج»، فإن «التحدي الأساسي لإدارة الأزمات»، يتمثل في «حماية المصالح الأساسية مع تجنب نشوب حرب كبرى»، وقد يتضمن ذلك «استخدام التهديدات لإقناع الخصم بتغيير سياساته». ويكمن ذلك في القدرة على صياغة تهديدات ذات مصداقية بالأقوال أو الأفعال لردع الفعل قبل حدوثه، أو لإجبار دولة على التراجع عن «خطوة عدوانية». وفي هذا الصدد، أوضح جاك لافي، من جامعة روتجرز، أن دبلوماسية الإكراه والردع هي استراتيجية سياسية ونفسية يجب أن يوجههما القادة السياسيون. والأهم من ذلك، أن الأزمات عالية المخاطر التي حدثت في الماضي -كالأزمات المذكورة سابقا- أظهرت لمقرري السياسة الغربية أن إدارة الأزمات الناجحة تتضمن توفير بعض الوسائل لحفظ ماء الوجه للخصم أيضا، من أجل تجنب دفعه إلى حافة الهاوية. وبشكل عام، لا يمكن النظر إلى هذه الأزمات على أنها ناجمة عن عوامل دبلوماسية أو سياسية فقط، فهي نتيجة تاريخ معقد وسياسات في عالم ما بعد الحرب الباردة. وكما أوضحت كلوديا ميجور، وإليزابيث شوندورف، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية؛ فإن أزمات اليوم، مثل تلك الموجودة في أوكرانيا، تشمل أبعادا اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية، وبالتالي، فإن إدارتها الناجحة تتطلب الجمع بين الوسائل الدبلوماسية والعسكرية والمدنية والإنسانية والمساعدة الإنمائية. وتشكل إدارة الأزمات، جانبا رئيسيا من الدبلوماسية الغربية واعتباراتها الأمنية. ويصفها حلف الناتو، بأنها إحدى مهامه الأمنية الأساسية، وأن هذه العملية يمكن أن تتضمن إجراءات عسكرية وغير عسكرية لمعالجة سلسلة من الأزمات. وقد خلصت المنظمة العسكرية الغربية إلى أن أفضل طريقة لإدارة النزاعات هي منع حدوثها. أما فيما يتعلق بفشل الجهود الغربية في إدارة الأزمة الروسية–الأوكرانية، فقد أرجعه المحللون إلى عدم فهم الغرب للقضايا الأعم المطروحة، والانقسام السياسي الواضح بين الدول الغربية، وعدم فعالية المبادرات الدبلوماسية التقليدية في هذا السيناريو. وفي الحقيقة، هناك قصور غربي في فهم أهداف روسيا من وراء تصعيد هذه الأزمة. وعلى الرغم من إدراكهم أن الرئيس الروسي، بوتين، مُصر على عدم السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى حلف الناتو، إلا أن المدى الحقيقي الذي قد يذهب إليه للتأكد من عدم حدوث ذلك، لا يزال موضع تخمين. ومن هذا المنطلق، أشار يوجين تشوسوفسكي، من معهد نيولاينز، إلى أن التفسيرات المختلفة لأسباب نشأة النزاع الأوكراني منذ عام 2014، قد قوضت عملية الوساطة بين الغرب وروسيا. وعلق جدعون راشمان، في صحيفة فاينانشيال تايمز، بأن الروايات المختلفة لأسباب الأزمة، تعود إلى ما وُصف بأنه حرب دعائية بين الغرب وروسيا. وبالنظر إلى هذا التباين في فهم أن أزمة أوكرانيا تعكس منافسة تاريخية غربية روسية أوسع نطاقا؛ خلص تشوسوفسكي، إلى أنه سيكون من الصعب أن تحقق المحادثات تقدما حقيقيا ما لم يتم الاعتراف بأن هذه المفاوضات لا تتعلق فقط بأوكرانيا، ولكنها حول علاقة بأكملها بين روسيا والغرب. بالإضافة إلى ذلك، تعد الانقسامات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، حول الاستراتيجية والسياسة تجاه أوكرانيا جانبا آخر يعيق إدارة هذه الأزمة. وفي حين أن الأخيرة، قد أخذت زمام المبادرة في المحادثات مع موسكو، فإن الدول الأوروبية لم تقدم جبهة موحدة. وتعرضت ألمانيا لانتقادات لطريقة تعاطيها مع الأزمة. وأشارت جيني هيل، من «بي بي سي»، إلى تعرض مستشارها الجديد أولاف شولتز، لانتقادات واسعة؛ بسبب استجابته البطيئة والمربكة في البداية؛ وذلك بسبب المخاوف بشأن إمدادات الغاز الألمانية، ومستقبل خط أنابيب نورد ستريم2، بالإضافة إلى الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي حول السياسة تجاه موسكو، وفي ضوء ما سبق، فإن الموقف الدبلوماسي المتضارب لبرلين يقوض الدعم الأوروبي العام لأوكرانيا. من ناحية أخرى، انخرط الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون في دبلوماسيته المكوكية. ووفقًا لـ«نويمي بيسيربي»، وآن سيمونز، وجوردون لوبولد، في صحيفة وول ستريت جورنال، فإنه يحاول ملء فراغ القيادة في أوروبا الذي خلفته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. وفي حين أن هذا النهج الذي اتصف به وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، قد حقق نتائج مهمة للسياسة الخارجية الأمريكية؛ إلا أنه لم تُسفر مبادرات ماكرون الدبلوماسية حتى الآن عن إنجاز ملموس. وفي اجتماعه مع بوتين في أوائل فبراير 2022، تم الحديث فقط عن المسؤولية المشتركة، وإمكانية وضع الأساس لاتخاذ خطوات إضافية. وفي ضوء هاتين الحالتين، أشار المحللون إلى تراجع النفوذ الأوروبي وتأثيره في الشؤون العالمية. وعلق جيريمي شابيرو، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بأن عجز أوروبا حيال هذه الأزمة الدبلوماسية، ينبع من اختلال التوازن المتزايد في التحالف الغربي، وذلك بسبب التطورات السياسية الداخلية في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، حيث ألقت هذه الدول مهام التحرك الدبلوماسي على عاتق واشنطن، فيما تقف شبه متفرجة، وعليه، فهم ليسوا شركاء جوهريين في إدارة الأزمات الغربية. وإلى جانب الإخفاقات الأوروبية، كان دور الولايات المتحدة في إدارة هذه الأزمة محل نقاش أيضا. وعلى الرغم من أن بايدن، أجرى اجتماعات مع بوتين، ومع قادة الدول الحليفة، وقدم كلمات دعم قوية بشأن سيادة أوكرانيا، إلا أن ذلك كان غير كاف لردع الهجوم الروسي على أوكرانيا. ووفقًا لـ مايكل كرولي، من صحيفة نيويورك تايمز، فإن فشل إدارة بايدن في تعيين سفير لها في كييف حتى الآن، يمثل لغزًا رئيسيا في قلب الأزمة، ويعد أمرا مقلقا ومؤسفا. علاوة على ذلك، فبينما أعلنت واشنطن إرسالها 3000 جندي إضافي إلى بولندا، وبالتالي مضاعفة وجودها العسكري في أوروبا الوسطى، فمن غير المرجح أن تجعل هذه القوة الصغيرة نسبيًا، موسكو تغير توجهاتها نحو أوكرانيا. وبالمثل، زودت المملكة المتحدة، أوكرانيا بـ2000 سلاح خفيف مضاد للدبابات، وهو الأمر الذي وصفه سام إيفانز، وسيد كوشال، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، بأنه خطوة لا تعالج التهديد الذي تشكله روسيا. وفي مقابل الزيادات المتواضعة للقوات والمعدات التي تم نقلها إلى أوروبا الشرقية، استمرت روسيا في حشدها العسكري. واعتبر إيفانز، وكوشال، أنه من الصعب تخيل أن روسيا كان بإمكانها التخطيط لزيادة قوتها على الحدود الأوكرانية، من دون توقع رد مماثل من قبل الناتو. ولاحظ أندري دنيوك، من المجلس الأطلسي، أن الغرب يجب أن يكون قادرًا على إقناع الكرملين بأنه مستعد أيضًا لدفع ثمن أعلى بكثير مما كان متوقعًا من أجل الدفاع عن أوكرانيا. وأشار كل من ماكس كولشستر، ووارن ستروبل، من صحيفة وول ستريت جورنال، إلى الحقيقة المربكة للغرب، وهي أنه إذا قامت روسيا بالفعل بغزو أوكرانيا، فإن نطاق التحرك الغربي المباشر سيكون محدودًا. وأكد جيم تاونسند، من مركز الأمن الأمريكي الجديد، أن واشنطن وحلفاءها في الناتو، يجب أن يوضحوا، أن الأعمال العدائية الروسية، ستُقابل بـ«ردود فعل قوية» من بينها تعزيزات عسكرية غير مسبوقة لأوكرانيا. ومنذ بداية الأزمة، أكدت واشنطن، كيف أن أي توغل روسي في أوكرانيا، سيؤدي إلى إصدار عقوبات مالية صارمة ضد موسكو. وأشار برايان أوتول، ودانييل فرايد، وإدوارد فيشمان من المجلس الأطلسي، إلى أن من بين التدابير الاقتصادية الأكثر تأثيرًا لردع روسيا ستكون التهديد بالتصعيد بفرض عقوبات رادعة تلحق الضرر بقطاعها المالي، نظرًا إلى طبيعة مركزية الصناعة المصرفية وخدماتها المالية وقابليتها للتأثر. ومع ذلك، خلص تاونسند، إلى أن العقوبات الاقتصادية وحدها لن تكون كافية لمنع الكرملين من استخدام تكتيكات التلاعب والمراوغة والذي أثبت فعاليتها في الماضي، وبالتالي، فإن هذه السياسة، لن تقلل من خطر الغزو الروسي، إلا إذا صاحبها تهديدات مباشرة بالقيام بـ«رد عسكري قوي». وعلق جون هيربست، السفير الأمريكي السابق لدى أوكرانيا، بأن التهديد المزدوج بفرض عقوبات وشحن المزيد من الأسلحة المتطورة، رغم عقلانيته وقوته، لكنه ليس نشطًا بما يكفي لمنع روسيا من المضي قدمًا في تلبية طموحاتها العسكرية. وبعيدًا عن تبني سبل الردع العسكرية، فإن هناك افتقارا إلى آليات المرونة الدبلوماسية التي استخدمت في الماضي من قبل شخصيات مثل كيسنجر. وأشارت آن أبلباوم، في مجلة ذا أتلانتك، إلى أن السياسيين الغربيين يعانون من نقص شديد في التفكير، وعلى وجه الخصوص، وصفت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، بأنها قليلة الحيلة، ووصفت اجتماعها مع نظيرها الروسي، سيرجي لافروف، بأنه لاقى فشلاً ذريعًا. وفي تعليقها على عجز المساعي الدبلوماسية الغربية التقليدية عن كسر الجمود الراهن مع موسكو؛ أعربت عن أسفها كيف أن القادة السياسيين والدبلوماسيين الغربيين، ما زالوا يعتقدون أنهم يعيشون في عالم يلتزم بالقواعد والأعراف، ويرى البروتوكولات الدبلوماسية أو الخطابات المهذبة ذات جدوى. في الوقت ذاته، أشارت إلى كيف كان لافروف، يستخدم لهجة عدوانية وعبارات السخرية، كأدوات لوصف المفاوضات والحلول الدبلوماسية ووصفها على أنها غير مجدية، مضيفة أن أمثال بوتين، ولافروف، لا يحترمون إلا القوة الصارمة، ولا يستمعون إلى أي شيء إلا إذا كان يهدد حقًا موقفهم، وسلطتهم. على العموم، من الواضح أن الجهود الدبلوماسية والسياسية التي يبذلها الغرب ضد روسيا، بالإضافة إلى جهود الردع، تفتقر إلى القوة والتأثير التي يمكن أن تجبرها عن التخلي عن طموحات الغزو. وبينما يتحدث بايدن، حتى الآن عن حجم المخاطر التي قد تتكبدها جراء غزوها لأوكرانيا، لا يبدو أن هناك أدلة أو علامات تذكر على أنها تأخذ مثل هذه التحذيرات على محمل الجد. وبالتالي، فإنه مع استمرار التوترات، وعدم جدوى المحاولات الغربية لإدارة هذه الأزمة، تزداد احتمالية نشوب نزاع مسلح. ومع محدودية الخيارات المتاحة أشار بعض المحللين إلى أن الغزو الروسي المحتمل، واحتمال تورط موسكو فيه فترة طويلة، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تقوية شوكة حلف الناتو وتعزيز الأمن الأوروبي بصورة أوسع نطاقًا، حيث سيبقى لدى الناتو الوقت لضبط مساراته مجددًا. ومع ذلك، لابد من الإشارة إلى أن الإخفاق في إدارة تلك الأزمة، قد يعرض التحالف الغربي لعدم اليقين، كما أن نتيجتها لن تحدد فقط ميزان القوى في القارة الأوروبية، ولكن أيضًا ستؤثر على رؤية بايدن لواشنطن، كقوة لا تزال قادرة على مواجهة الأنظمة الاستبدادية بقوة.
مشاركة :