خلال حفل أقيم في منطقة معينة، حضره حشد كبير من الناس، شاهد أحد الحضور معلمه الذي كان يدرّسه في المرحلة الابتدائية قبل نحو 35 سنة، أو أكثر. ذهب الطالب بلهفة واشتياق إلى المعلم، فصافحه وقبل يديه، والمعلم مستغرب من تصرف هذا الإنسان، وعندما سأل المعلم عن هذا التصرف، قال الطالب بشيء من الخجل والخزي: هل تتذكرني يا أستاذي؟ فقال المعلم العجوز: لا يا بني، من أنت؟ فقال الطالب بصوت خافت: كيف لا؟ فأنا يا أستاذي ذلك التلميذ الذي سرق ساعة زميله في الصف، ألا تذكر؟ قال المعلم: لم أعد أذكر شيئا من كل تلك الأحداث، يا بني. استغرب الطالب، فراح يحاول أن يعيد ذاكرة المعلم، فقال: الا تذكر أنه عندما اختفت ساعة زميلانا في الصف، وبعد أن بدأ الطفل صاحب الساعة يبكي طلبتَ منا أن نقف جميعًا ليتم تفتيش جيوبنا. أيقنتُ حينها – يا أستاذي – أن أمري سينفضح أمام التلاميذ والمعلمين وسأبقى موضع سخرية وستتحطم شخصيتي إلى الأبد، ولكنك أمرتنا أن نقف صفًا واحدًا وأن نوجه وجوهنا للحائط وأن نغمض أعيننا تمامًا. فأخذت تفتش جيوبنا، وعندما جاء دوري في التفتيش وسحبت الساعة من جيبي واصلت التفتيش إلى آخر طالب. وبعد ان انتهيت منا جميعًا طلبت منا الرجوع إلى مقاعدنا وأنا كنتُ مرتعبًا من أنك ستفضحني أمام الجميع. ولكنك بكل هدوء أظهرت الساعة وأعطيتها للتلميذ، وعندما سألك الطالب صاحب الساعة عن السارق، لم تَذْكر اسم الذي أخرجتها من جيبه، وسكت وابتسمت. سكت الطالب، وأخذ نفسًا، ثم واصل: وطوال سنوات الدراسة الابتدائية لم تحدثني أو تعاتبني ولم تُحدث أحدًا عني وعن سرقتي للساعة، ولذلك يا معلمي قررت منذ ذك الحين ألا أسرق أي شيء مهما كان صغيرًا، فكيف لا تذكرني يا أستاذي وأنا تلميذك وقصتي مؤلمة ولا يمكن أن تنساها أو تنساني؟ ابتسم المعلم العجوز، وطبطب على ظهر تلميذه وقال: بالطبع أتذكر تلك الواقعة يا بني، صحيح أنني تعمدت وقتها أن أفتشكم وأنتم مغمضي العيون كي لا ينفضح أمر السارق أمام زملائه، لكن – يا بني – ما لا تعلمونه هو أنني أنا أيضًا فتشتكم وأنا مغمض العينين، ليكتمل الستر على من أخذ الساعة ولا يترسب في قلبي شيء ضده. هذه القصة على بساطتها، إلا أنها عميقة الفكر، فهذا السلوك وهذا الخطأ الذي حدث يمكن أن نواجه كلنا سواء مع أطفالنا أو موظفينا أو أي نوع من البشر، فنحن نتعامل مع البشر، والأساس في البشر أنهم يخطئون، وعلى هذا الأساس يجب أن نتعامل معهم، فكيف عندما يكونون صغارا وأطفالا؟ ليس ذلك فحسب وإنما من حق الإنسان أن يخطئ، ولكن العبرة في التعامل مع هذا الخطأ ومن يقوّم هذا الخطأ وكيف؟ وربما هنا تأتي المشكلة. يجد علماء التربية وكذلك علماء الإدارة أن الإنسان الذي يتصدى لمثل هذه المواقف في معالجة أخطاء البشر عليه أن يتحلى بسعة صبر كبيرة جدًا، فلا يمكن أن نعامل البشر كوحدة واحدة، فما ينفع مع (عبدالله) ربما لا ينفع مع (عبدالرحمن)، وهكذا فهناك فروق فردية وظروف حياتية وبيئية يجب أن تؤخذ في الاعتبار عندما نتصدى لمعالجة المشاكل والأخطاء. فنأخذ هذا المثال؛ طفل يكذب باستمرار، فهل سألنا أنفسنا ما الذي جعله يسلك هذا السلوك؟ ربما ذات يوم ضرب شقيقه أو شقيقته، أو فعل أمرا مستهجنا، وعندما سألناه هل فعل ذلك، قال بصدق: نعم فعلته، فكان رد فعلنا أنه قمنا بضربه لأنه فعل ذلك الخطأ، ولكن الطفل يعتقد أن ضُرب لأنه قال الصدق، وربما عندما قام بنفس الفعل مرة أخرى وعندما تم سؤاله كذب عندها لم نعنفه لأننا وجدنا أنه ليس هو المذنب، لذلك سيجد أن الملجأ الذي يمكن أن يختبئ خلفه دائمًا هو الكذب لأنه سينجيه من كل العقوبات، هذا السلوك والعديد من السلوكيات التي يقوم بها الطفل عادة يكون وراءه سبب ما. لذلك على الوالدين البحث عن الأسباب التي أدت إلى التمسك بمثل هذه السلوكيات التي نعتقدها أنها سيئة. ولكن على الرغم من ذلك، وإن كانت دعوتنا أن نغض الطرف عن الأخطاء إلا أن هذا لا يعني أبدًا أن نترك الأخطاء تتنامى ونعجز بعدها عن التصدي لها، وإنما كلما كان التصدي للأخطاء في أوقات مبكرة فإن ذلك أفضل. فتربية الأطفال عملية مستمرة ومتكررة، وليس وليدة لحظة أو لحظات، فهي عملية مجهدة للآباء والأمهات، ولكن إن سارت بطريقة علمية سليمة فإن النواتج التي ستظهر مستقبلاً ستكون رائعة. ولكن على الرغم من ذلك فإنه يجب أن يكون معلومًا، أننا لا ندعو إلى غض الطرف بصورة اعتباطية، وإنما يجب أن يعرف المربي متى يغض الطرف، ومتى يحاور، ومتى يعاقب، وهكذا حتى لا تختلط الأمور. وأما في عالم الأعمال، فإن الموضوع يحتاج إلى غض الطرف بصورة كبيرة، فكلنا نقع في الخطأ، سواء الموظف أو المدير أو حتى الذين في المناصب العليا، ولكن العبرة في الاعتراف بالخطأ، وكذلك معرفة نوعية الخطأ الذي وقع فيه الموظف – أيًا كان منصبه – فهناك موظف يختلس، وهناك موظف يقل أدبه، وهناك موظف يتحرش بزميلات العمل، وموظف لا يعمل، وموظف يتأخر عن العمل بصورة دائمة، وموظف يحب المال بصورة جنونية، وموظف قليل أدب مع زملائه، وموظف متسلق ومتملق، كل هذه النوعية من الموظفين والموظفات موجودة في العمل، فهل نعامل كل هذه النوعية من الأخطاء على اعتبار أنها نوعية واحدة؟ وهناك الكثير من المسؤولين يتعاملون بأسلوب فرق تسد، لذلك يحبون أن تقع مثل هذه المشاكل، لأنها تخلق نوعًا ما جوًا مشحونًا في أماكن العمل، فيصبح هو البطل المغوار الذي يمكنه أن يتصدى لمثل هذه المشاكل. وقد يقول قائل: نحن في العمل، ولسنا في روضة أطفال حتى نتغاضى عن الأخطاء، فالمخطئ يجب أن يعاقب بغض النظر عن نوعية الخطأ. وهذا يحدث وكثيرًا ما نسمعه من المسؤولين، ولكنه ينسى أن يتناسى أن ابنه أو ابنته التي تعمل في مكان آخر تخطئ أيضًا فإن عوقبت ابنته على أي نوعية من الأخطاء فإنه يغضب وربما يذهب للمسؤول الذي عاقب ابنته حتى يهدده وما شابه، فهل أبناء الآخرين أقل درجة من أبنائك؟ ربما هنا تقع مشكلتنا دائمًا، فنحن لا نقيس الأمور بمعيار واحد، وإنما نقيسها بعدة معايير، فأبناؤنا يجب ألا يُمسوا أيًا كانت أخطاؤهم، وأبناء الآخرين يجب أن يعاقبوا أشد العقاب إن أخطأوا حتى وإن كانت أخطاؤهم تافهة لا تأثير لها على العمل. في دورة تدريبية في السماء الافتراضي مع مجموعة من المسؤولين أقمناها قبل أسبوعين، دار حديثنا حول التعامل مع الموظفين بأنواعهم المختلفة، وعندما ناقشنا ردود أفعال المسؤولين حول بعض الأخطاء والمشاكل التي يحدثها الموظفون كانت ردودهم تتراوح ما بين قاسية وشبه قاسية، فكان الخطأ – كما قال أحدهم – يجب أن يتحمله الموظف، وبعد حين سألتهم: ماذا سيكون شعوركم لو كان أبناؤك في مؤسسة أخرى ووقعوا في نفس الأخطاء، وتم معاقبتهم بنفس العقاب الذي خولتك نفسك بمعاقبة الموظف الذي لديك فما يكون شعورك؟ في الحقيقة هنا تغيرت المواقف، فسكت الجميع ولم أسمع أي رد واضح، وعندما طلبت منهم واحدًا واحدا الإجابة عن هذا السؤال، وجدت أن الإجابات كانت كلها مخبئة تحت غطاء العفو والصفح. ومرة أخرى أقول إن كلامي لا يعني أبدًا أن نغض الطرف عن كل الأخطاء، وإنما يجب أن نتعامل مع الموظفين بطريقة أخرى، فالموظف الذي لا يتعمد الخطأ يختلف عن الموظف الذي يخطئ ليغيظ المسؤول وأخطاؤه متكررة، والموظف الذي يخطئ خطأً بسيطًا ليس له تأثير على سير العمل يختلف عن موظف شتم عميلا أو مراجعا وأهانه ومسح به البلاط كما يقال، والموظف الذي سكب الشاي على الأرض لأنه تعثر يختلف عن الموظف الذي أخذ الحاسوب وضرب به الأرض لأنه في حالة غضب. كل هذه الأمور يجب أن تؤخذ في الاعتبار، سواء نوعية الموظف أو نوعية الخطأ، بالإضافة إلى قياس مهارات الموظف ومعارفه والمفاهيم التي يمتلكها، فالموظف الذي لا يعرف أن يشتغل على الحاسوب قد لا يكون الخطأ منه إن تلف الحاسوب، وذلك بسبب أن المؤسسة نفسها لم تُدخله في دورات تدريبية لتعمل العمل على الحاسوب. ذلك المعلم الذي أغمض عينيه هو حتى لا يعرف أيا من التلاميذ الذي سرق الساعة، يعطينا درسًا مهمًا في غض الطرف، إذ كان من الممكن أن يفتح عينيه ليعرف من هو الطالب السارق، إلا أن التربية تحتم علينا عادة أن نغمض أعيننا عن العديد من الأخطاء حتى لا نظلم من نحب، وكذلك من ربما نعيش معه في سويعات الدوام القليلة. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :