من الصعب تخيل ما يدور في خلد القادة الصينيين الآن، فبيئة العلاقات الدولية مسممة بتوتر خطير قد ينسف حالة الاستقرار الذي تمتعت به البشرية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي اعطى الفرصة للصين كي تبني اقتصاداً قوياً اعتمدت فيه على انفتاح الغرب عليها والسماح لها بالدخول في المنظمات الدولية، هذا مكنها من التحول الى ورشة للعالم، فنما اقتصادها وقفز بسرعة إلى المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وتوسعت علاقاتها التجارية بشكل جعلها تشكل خطراً حتى على الولايات المتحدة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطورت عسكرياً حتى اصبحت من القوى الكبرى، هذا الوضع دفعها للبحث عن طريق تسلكه يخلصها والعالم من الهيمنة الاميركية وفي طريقها هذا ترصد الازمات التي توقع الولايات المتحدة نفسها فيها وتحاول استغلالها لصالحها ومن هذه الأزمات الأزمة الأوكرانية مع روسيا فأين تقف الصين من هذا الصراع؟ في البداية لا بد من القول ان الصين وكأنما تسير على حبل مشدود، فإن كان التنمر الروسي على الولايات المتحدة يتيح لها مكاسب عديدة، لكنه ايضاً يضعها في مواجهة تحديات خطيرة تجعلها تفقد الكثير من المكتسبات، ولنبدأ بالفوائد فالصين من خلال هذه الأزمة ستنعم بتوجيه الطاقات الاميركية بعيداً عنها وتحولها الى مكان آخر، وهذا سيخفف الضغط عنها كثيراً مما يعطيها الفرصة كي تتنفس الصعداء ولو قليلاً من السباق الذي فرضته عليها الولايات المتحدة. أما المكسب الثاني فأزمة أوكرانيا ستشكل بالون اختبار تكشف من خلاله تصرف الولايات المتحدة وردة فعلها فيما لو قامت الصين بنفس الشيء ضد جزيرة تايوان، والمكسب الثالث هو أن غزو روسيا لأوكرانيا سينسف النظام الدولي الحالى القائم على هيمنة الولايات المتحدة الأميركية وينهي أسطورة تفوقها وسطوتها على العالم، ويساهم في إنشاء نظام جديد متعدد الأقطاب يكون لها مكانة الدولة العظمى فيه، المكسب الرابع ان حصار موسكو اقتصادياً سليقي بها بدون تردد في احضان الصين.. هذه مكاسب مقترحة للصين لن تكون بدون ثمن فما هي المخاطر التي ستواجهها الصين؟ تحاول الصين الحفاظ على نوع من الغموض الاستراتيجي، ولكنها لن تستطيع إخفاء عدم معارضتها لموسكو ومع ذلك هل سترجح كفة المكاسب أم المخاسر، فأوكرانيا كانت شريكاً اقتصادياً وعسكرياً مهماً للصين، فهي مصدر رئيسي للغذاء لها، وأيضاً مزودها الرئيسي بالمعدات العسكرية للتصنيع الحربي، عدا عن أنها جزء من مشروع الحزام والطريق، وكانت الصين تعول عليها بأن تكون بوابتها إلى اوروبا، هذه كلها ستذهب أدراج الرياح إذا دعمت موسكو، اما بالنسبة لأوروبا وهي ثاني أكبر شريك اقتصادي للصين، فإن دعمها لغزو اوكرانيا سيجعلها في مواجهة غضب اوروبي وأميركي لا يعوض، وسيؤدي ذلك إلى تداعيات اقتصادية شديدة الخطورة عليها، وهو ما لن تستطيع روسيا المحاصرة تعويضه، والأخطر من ذلك ان الصين بنت استراتيجيتها لرسم مستقبلها كقوة عظمى على التشبيك التجاري مع العالم وآسيا الوسطى ودول ما بعد الاتحاد السوفييتي هي جزء أساسي من هذا المشروع، والسماح لروسيا بالهيمنة على هذا الفضاء الجيوسياسي سيجعل مشروع الصين تحت رحمة روسيا وهذا أمر خطير لا يمكن للصين الطامحة التعايش معه. لذلك من الصعب في ظل المعطيات السابقة التأكد من أن الصين ستتخذ موقفاً واضحاً تماماً مع أحد الأطراف فهذه الأزمة أغرقتها كما الجميع في لعبة معقدة من الصعب فيها رسم حدود واضحة بين المكسب والخسارة، لكن المؤكد أن هذه الأزمة ستخرج العالم من نظام دولي أحادي القطب الى نظام متعدد الأقطاب، وهنا لو لاذت الصين بالصمت المطبق فهي ستكون رابحة بدون شك لأنها ستكون واحداً من الأقطاب المهمين في هذا النظام وحتى هذه لن تكون بدون ثمن. (الرأي)
مشاركة :