كيف تصنع أولوية فى خمس خطوات؟

  • 2/23/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لقد عرفنا منذ قرن من الزمان على الأقل أن الفضاء الاتصالى فى أى مجتمع يمكنه أن يسهم بقوة فى تحديد القضايا التى يهتم بها الجمهور، عندما ظهرت نظرية «تحديد الأولويات» (Agenda Setting Theory)، التى نُسبت إلى الباحثين «ماكسويل» و«شو»، حيث تفترض تلك النظرية أن وسائل الإعلام يمكنها أن تُشكل نطاق الاهتمام للعامة، وأنها فى طريقها لذلك قد تُبعد أولوية جادة وحقيقية وتحل محلها أولوية زائفة ومصطنعة. ويُعد المجتمع المصرى أحد المجتمعات التى يمكن قياس مدى نجاعة تلك النظرية فيها، إذ يتميز بطبيعته النشطة وتقلباته الحادة، وتوزع اهتماماته على قطاع عريض وثرى من القضايا، فى ظل تمتعه بنطاق اتصالى نشيط ومتنوع. وفى هذا الصدد، يمكن القول إن المجتمع المصرى أبدع طريقة مميزة فى صناعة الأولويات العمومية، وأن تلك الطريقة تنتظم فى مسار محدد، أضحى بمنزلة أنموذج عمل مُعتمد على نطاق كبير. من جانبى، سأحدد طريقة صنع الأولوية فى فضائنا المحلى عبر خمس خطوات رئيسية، من خلال قراءة الأحداث التى تصدرت قوائم الاهتمام على مدى العقد الأخير، وتحليل أسلوب عرضها على العموم، ثم تمركزها ضمن قائمة الأولويات، فى ظل فورة وسائل الإعلام التقليدية، وتعاظم تأثير وسائط ما يُسمى بـ«التواصل الاجتماعى». الخطوة الأولى فى صنع الأولوية تتلخص فى البدء بممارسة حادة وزاعقة؛ فعبر تلك الممارسة ستنصرف الأنظار كلها إلى الحدث الذى يعكس الجرأة والتجاوز والغرابة ونزعة الصدام. ومن أمثلة تلك الممارسات الحادة والزاعقة؛ رأى صادم، أو زى فاضح، أو تطاول على معتقد، أو إفراط فى التأييد، أو إمعان فى المعارضة، أو فُجر فى خصومة، أو شطط فى تحليل، أو كذب بواح، أو صدق خادش، أو جرأة بالغة، أو لفظ حقير ومبتذل، أو اعتداء بيِّن، أو خصوصية مستباحة أو مُسلَّعة. وبمجرد وقوع هذه الخطوة الأولى، المتمثلة فى الممارسة الحادة والزاعقة، تأتى الخطوة الثانية، المتجسدة فى نقلها عبر وسائط الإعلام. وفى معظم الحالات، فإن هذا النقل سيتم عبر الوسيطين الرائجين، اللذين يتقاسمان خريطة التأثير؛ أى الوسيط النظامى المتمثل فى التليفزيون والصحيفة والموقع الإلكترونى والإذاعة، والوسيط غير النظامى؛ أى الحسابات الشخصية على وسائط «السوشيال ميديا». وستكون تلك الممارسة الحادة والزاعقة عنواناً فى المطبوعات، وموضوعاً لحديث المذيعين المشهورين فى حصص «التوك شو» المسائية، وستقام من أجلها حلقات النقاش فى البرامج المتخصصة، وسيتم استدعاء المحللين والمتخصصين لمناقشة جوانبها المختلفة. وبموازاة ذلك، ستظهر تلك الممارسة على قوائم «التريند»، وسينخرط مستخدمو «السوشيال ميديا» فى سجالات قوية بشأنها، وستتصادم الآراء أو تتوافق بحسب طبيعة الوسيط وذائقة جمهوره، وسيُظن مع هذا التفاعل أن تلك القضية هى القضية الكونية والوطنية الأولى والأكثر استحقاقاً للتفكير فيها ودراسة أبعادها والاصطفاف مع أحد أطرافها أو ضده. وتتعلق الخطوة الثالثة بمنظور تقديم تلك الممارسة الزاعقة. والمنظور هو الإطار الذى يتم تقديم المادة المستخدمة إعلامياً من خلاله، فعبر ذلك الإطار تتحدد أهميته ويتم تعيين اتجاه التفاعل معه. وقد أضحى منظور «القيمة» هو الأكثر استخداماً فى تصنيع الأولويات الوطنية؛ إذ لا تتموضع القيمة فى هذا السياق بوصفها محفز سلوك وموجهاً أخلاقياً فقط، ولكن أيضاً باعتبارها مرتكزاً حيوياً ودليل انتماء وصك هوية ومُقدس عقائدى. عندما يتم وضع الممارسة الزاعقة التى لم تكن سوى «رأى غير مدروس» أو «نقد لتوجه دينى» أو «فستان من دون بطانة» فى إطار قيمى، فإنها تتضخم وتتحول إلى موضوع أكبر مثل «الوطنية» أو «الدفاع عن الدين» أو «الشرف»، وهنا تبدأ الممارسة الزاعقة فى التمركز فى الواقع كأولوية متقدمة تجب ما عداها من أولويات حتى ولو انطوت على قدر وافر من الخطورة والجدية. وتتجسد الخطوة الرابعة فى دخول المؤثرين والمشاهير على خط الأزمة، أو استدعائهم لذلك. وفى الآونة الأخيرة بات قطاع كبير من هؤلاء المؤثرين والمشاهير مدرباً على استشراف القضايا التى يمكن أن تتطور إلى أولويات عمومية، ولذلك، فإنهم يبادرون كل صباح إلى تفقد ساحات التواصل، ليختاروا قضية ينخرطون فيها على الفور، وهو الأمر الذى راح نقاد نبهاء يصفونه بـ«ركوب التريند». ولأن الممارسة التى استدعت هذا التفاعل كانت حادة وزاعقة، فإن الرأى الذى سيبديه معظم هؤلاء المشاهير والمؤثرين سيكون من الجنس ذاته؛ أى حاداً وزاعقاً، ومع كل تلك الحدة ستتحول القضية إلى معركة وطنية ينخرط فيها الجميع بحماس وشغف يليق بخوض المعارك المصيرية والوجودية. وتأتى الخطوة الخامسة والأخيرة فى صناعة الأولوية الزائفة عبر دخول المؤسسات على الخط، ورغم أن المؤسسات الرسمية لها طبيعة خاصة تحتم عليها دراسة الأمور بروية، والحصول على قدر وافر من المعلومات قبل الإدلاء بالرأى أو اتخاذ القرار حيال أى قضية، فإن الإيقاع المتسارع لصناعة الأولوية يجرف تلك المؤسسات إلى ردود الفعل السريعة وغير المدروسة أحياناً. وبمجرد دخول المؤسسات الرسمية على خط القضية المصطنعة، يصبح لزاماً على وسائل الإعلام الجادة، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، أن تعالج تفاصيلها، كما يصبح لزاماً على الجمهور الذى انصرف فى البداية عنها، بداعى أنها «غير حقيقية وغير مهمة وغير نزيهة»، أن يخصص وقتاً لمتابعتها، وربما الانخراط فى تفاصيلها باعتبارها «أولوية عمومية». ولا عزاء للأولويات الجادة.

مشاركة :