تتعدد عناصر قوة الدولة وتتنوع ما بين عسكرية واقتصادية وثقافية وعلمية وتكنولوجية، وعناصر القوة العسكرية تتعدد وتتنوع ما بين الحجم والكم، وما بين الجودة والنوعية والدقة، وما بين سلامة اختيار توقيت استخدامها. القوة العسكرية ليست هي القوة الوحيدة التي تستخدم في إدارة شؤون العلاقات الدولية. فإلى جانبها توجد القوة الاقتصادية التي تعد مصدراً مهماً لوجود كل عناصر القوة الأخرى. ودون القوة العلمية والتكنولوجية تتأخر الدولة في مسارها على موازين القوة الشاملة. وبعبارة أخرى دون قوة علمية وتكنولوجية لا توجد عناصر القوة الأخرى. وفيما يتعلق بالقوة العسكرية فإن عناصرها المتعلقة بالجودة والفعلية، مثل مدى السلاح، ودقته في الوصول إلى الهدف، ومستوى قوته التدميرية، كلها ترتبط بمدى تقدم الدولة على مسار القوة العلمية، والتكنولوجية، وخلاصة القول هنا إن التسلح وكميته وجودته وفاعليته هي من العناصر الأساسية لقوة الدولة العسكرية، والتي قد تستخدم أو لا تستخدم في إدارة العلاقات الدولية للدولة، وقد لا يوجد سباق تسلح في العلاقة بين دولتين، أو أكثر، وتكون تلك الحالة علاقة دون صراع. أما في حالة الصراع فإن سباق التسلح يكون أداة لإدارة ذلك الصراع. ومعنى ذلك أنه لو افترضنا أن ثمة سباق تسلح يدور الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، فإن معنى ذلك أن ثمة صراعاً أو حرباً باردة بين القوتين العسكريتين الأولى والثانية في عالم اليوم، أما إذا لم يكن هناك سباق للتسلح فإن ذلك يعني أن كلاً من الدولتين تبني قوتها العسكرية من دون صراع مع الأخرى. وترى دول غربية، منها الولايات المتحدة، أن روسيا الاتحادية تدخل في سباق تسلح معها، وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده لا تنوي الانجرار إلى سباق تسلح كما يعتقد البعض في إشارة إلى الولايات المتحدة والغرب تحت مظلة حلف لشمال الأطلسي الناتو، ومع ذلك أكد بوتين أنه على روسيا أن تعوض ما فاتها في مجال التصنيع العسكري. وهو هنا يتحدث عن تطوير القدرات العسكرية للدولة الروسية دون دخولها سباقاً للتسليح أو حرباً باردة. وأشار بوتين إلى أنه لا ينوي الانجرار إلى أي سباق تسلح، ولا أي إحراز تفوق عسكري على أحد، وإن كانت هذه المقولة الأخيرة قد تحتاج إلى مراجعة في ضوء ما ستتخذه روسيا من قرارات في هذا الشأن عبر الشهور أو السنوات القليلة المقبلة. وفي كل الأحوال، فإن مسعى روسيا إلى تطوير قدراتها في مجال التسلح يقرأ أمريكياً على أنه عودة إلى سياسات سباق التسلح التي كانت قائمة بين الدولتين، خصوصاً في سنوات الحرب الباردة، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق في ديسمبر/كانون الأول 1991، ولمدة عقدين من الزمن كانت الحرب الباردة والثنائية القطبية قد اختفت، إذ لم يكن هناك سوى قطب عالمي واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد تغيرت الصورة، خصوصاً في الإدراك الأمريكي، بعد عودة بوتين إلى مقعد الرئاسة الروسية في السنوات القليلة الماضية، وقد تعزز ذلك التصور الأمريكي في ضوء المواجهات التي تمت بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في أزمة أوكرانيا، ومن قبلها القرم وجورجيا. لكن الذي يمكن، بل ويجب التأكيد عليه هنا، هو أن سياسات المواجهة وتصعيد الصراع في دول جوار مباشر لروسيا، بخاصة أوكرانيا، ومن قبلها جورجيا، كانت المبادأة الصراعية فيها تعود بالأساس إلى السياسة الأمريكية وموقف دول غربية أخرى من أعضاء حلف الناتو تجاه تلك القضايا. ويعني ذلك أنه حتى لو سلمنا بوجود سباق تسلح جديد ينبئ بصراع قد يمتد، فإن المسؤولية هنا لا تكون على السياسة الروسية وحدها، أو منفردة، وإنما أيضاً على السياسة الأمريكية ومواقف بعض دول الناتو الأخرى. وقد تعزز ذلك الإدراك الأمريكي والغربي بسبب دلالات نشر روسيا منظومة دفاع متطورة على حدودها الغربية، وهو ما يدعو إلى اعتقاد غربي بأنّ روسيا لديها أجندة توسعية وخطاب تصعيدي، وأنها ربما تستعد لشن حرب ضد أعدائها في المدى القريب. وفي ذلك السياق يلاحظ عودة الخطاب التسليحي إلى ملف إعادة ترتيب العلاقات بين أقوى دولتين نوويتين في العالم. وربما خلط البعض أو رد ذلك التصور أو التقدير إلى ما جاء في الخطاب السياسي الاستراتيجي الروسي في الآونة الأخيرة من ضرورة تحديث الجيش الروسي وتطوير أسلحته بشكل كامل، مع مراعاة المدى الزمني الذي يمتد حتى عام 2020 لتطبيق تلك الخطة، وربما ساهمت التحركات الأمريكية والأطلسية، في الفترة الأخيرة وعلى عدة محاور من بينها أوروبا الشرقية والبحر المتوسط، بل وبحر الصين الجنوبي، في صياغة إدراك استراتيجي روسي هجومي من أجل مواجهة فعالة لتلك التحركات الهجومية الأطلسية والأمريكية على ذلك النطاق العسكري والجيواستراتيجي الواسع المشار إليه أعلاه. وكان للخطط الأمريكية لنشر درع صاروخية يهدف إلى احتواء القدرات النووية الروسية، وهو ما سيؤدي إلى تعزيز أفكار خطط روسيا لتطوير قوتها الاستراتيجية. وفي هذا السياق تأتي كلمات بوتين التي يؤكد فيها أن روسيا نجحت في تطوير أسلحة قادرة على اختراق وضرب كل منظومات الدفاع الصاروخي على نطاق العالم، وليس فقط في بعض بلدان أوروبا الشرقية، ولم يتوقف التحرك الروسي عند ذلك المستوى، بل تعداه إلى إنتاج واختبار نظام دفاع صاروخي جديد تفوق سرعته سرعة الصوت، وقادر على اختراق نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي، وحمل رؤوس نووية، وإجراء مناورات مختلفة في الجو، والأهم أن هذا السلاح الجديد يتوقع أن يدخل الخدمة في الجيش الروسي قريباً. وقد تعلمت روسيا الاتحادية من تجربة الاتحاد السوفييتي السابق الذي لم يستطع تحمل التكلفة المالية والاقتصادية فانهار في ديسمبر/كانون الأول 1991. ولذلك اتجهت الحكومة الروسية إلى تعزيز قوتها الاقتصادية، بما يمكنها من زيادة إنفاقها العسكري وتطوير قدراتها العسكرية من دون مواجهة احتمال الانهيار أو الفشل الذي واجهه الاتحاد السوفييتي، وفي هذا السياق، وصل مستوى الإنفاق العسكري الروسي إلى 21% من ميزانية روسيا العامة سنوياً، وهو ما يعني أن معدل الإنفاق العسكري أصبح ضعف ما كان عليه ليس بعيداً، وإنما في عام 2010، أي منذ خمس سنوات فقط. وعلى مستوى التسلح النووي، أعلن الرئيس الروسي بوتين أن روسيا ستعزز ترسانتها النووية بنشر أكثر من 40 صاروخاً بالستياً جديداً عابراً للحدود. بحلول نهاية هذا العام، وينذر ذلك ببدء سباق للتسلح النووي، على خلفية النزاع المستمر مع الغرب بشأن الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن تفاقم التوتر بين روسيا والولايات المتحدة بعدما كشفت واشنطن عن مشاريعها لنشر أسلحة ثقيلة في أوروبا، ويمثل ذلك اشتعال الموقف في القارة الأوروبية شرقها وغربها، بل قد يصل تأثيره إلى كل من الدولتين الأمريكية والروسية، وهو ما يجب أن تنتبه إليه أوروبا قبل فوات الأوان. وفي هذا الصدد صرح أمين عام حلف الناتو بأن تصريحات بوتين تؤكد نمط السلوك الروسي التصعيدي، الذي انعكس في زيادة استثمارات روسيا في سياسات الدفاع بشكل عام وفي قدراتها النووية بشكل خاص، وأوضح أمين عام الناتو أن ما وصفه بالمبارزة النووية لروسيا خطرة وغير مبررة، وسوف تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وهو ما تواجهه دول الناتو حالياً وتزيد لذلك من استعداداتها وجاهزية قواتها. وفي هذا السياق فإن دفع حلف الناتو لجنود وبوارج من 17 دولة إلى مناورات سميت عمليات البلطيق، التي تشارك فيها دول ليست أعضاء في الحلف مثل جورجيا وفنلندا، وهو ما أغضب روسيا كثيراً ويدفعها إلى تعزيز قدراتها النووية، لا سميا بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستنشر أسلحة ثقيلة، خاصة دبابات، لقوة عسكرية تصل إلى خمسة آلاف جندي في دول كانت أعضاء في حلف وارسو السابق ثم أصبحت أعضاء في حلف الناتو منذ 1999. ويرى الغرب أن روسيا تعاني مشاكل اقتصادية نتيجة انخفاض كبير في سعر النفط، والعقوبات الغربية المفروضة عليها، ومن ثم انخفاض قيمة العملة الروسية (الروبل)، وهو ما قد يحول بينها وبين زيادة وتطوير القدرات التسليحية على النحو الذي سبق ذكره في سطور سابقة، فإن حدث ذلك سيكون معناه أن تصريحات بوتين قد تكون رداً غير فعال على ما تقوم به واشنطن من تحركات عسكرية في شرق أوروبا. بعبارة أخرى، فإن روسيا ستحاول التفاعل مع استراتيجية سباق التسلح، لكن قدرتها على تحقيق ذلك الهدف سوف تعتمد على عوامل من أهمها تطور القدرة الاقتصادية سلبياً أو إيجابياً، معنى ذلك أن روسيا لن تبادئ باستراتيجية لسباق التسلح لكنها ستدخلها إذا اضطرت إلى ذلك.
مشاركة :