السينما قوة اجتماعية هائلة يقودها نجوم مقدسون وتسكن كل الناس

  • 2/25/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تتجاوز أدوار السينما المجالات الفنية والجمالية إلى ما هو أوسع، حيث يعتبر هذا الفن مجالا اجتماعيا متشابكا فيه يجتمع الأفراد على اختلافهم، ومن خلاله يتشكل نوع من الوعي الذي يرقى إلى نفس مكانة الوعي بالمعمار. فمن منا لا يستحضر فيلما أو شخصية سينمائية من أعمال ديزني أو على الأقل شكل قاعة السينما؟ إذ يختلط اسم الفن باسم المكان الذي يعرض فيه، بينما ساهم التطور التكنولوجي الكبير في جعل السينما ثقافة تحتل هاتف كلّ منا. ما الأسباب التي جعلت السينما منذ انطلاقها فنا ثقافيا تشاركيا شعبيا؟ وما السمات المؤسسة لهذه الشعبية؟ ولم نلجأ إليها لمساعدتنا في فهم عالمنا، ونستدعيها لنعبر عن جانب من ذواتنا؟ كيف هي علاقة الجمهور بقاعة السينما طقوسها ورموزها، وعلاقة تلك القاعة بعمران المدينة والمعنى الاجتماعي؟ كيف تحدثنا الأفلام وماذا عن أدوات ثابتة تستخدمها السينما لتطويع العلاقة مع جماهيرها والإبقاء عليها؟ وما أبرز الأشكال التي نتلقى بها الأفلام وكيف نتعاطى معها؟ هذه التساؤلات وغيرها يسعى عالم علم الاجتماع الفرنسي إيمانويل إيتيس رئيس المجلس الأعلى للتربية الفنية والثقافية ورئيس المعهد العالي لتقنيات العروض في فرنسا في كتابه “علم اجتماع السينما وجماهيرها” للإجابة عليها لتشكل إجاباته أداة مرجعية متميزة لعلم اجتماع الثقافة ولكل المهتمين بالسينما. يؤكد إيتيس في كتابه، الصادر عن دار معنى والذي ترجمته سلمى مبارك الأستاذة بقسم اللغة الفرنسية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة، أن “قوة السينما العظمى اجتماعية، فهي تمنح كلا منا إمكانية ومتعة الحديث عن الأفلام التي نحبها أو نكرهها دون أي حرج. السينما، هذا الفن الذي يعتمد على التشارك مع الجمهور في الحيز العام، تسمح بإطلاق الأحكام والتعليقات ببساطة، فتسقط الحدود بين الخطاب العلمي وخطاب العامة. عرفت السينما كيف تخترع، مثلها في ذلك مثل العمارة، مفهوما للجلال تصل به إلى علاقة حميمية مع جميع مشاهديها وذلك من خلال دمج قصصها المصورة مع صور واقعنا اليومي". التاريخ الاجتماعي للسينما تأثير السينما يبدأ من الطفولة تأثير السينما يبدأ من الطفولة يقول الكاتب إن جانبا كبيرا من ثقافتنا الفردية والجماعية سينمائي بامتياز، سواء اخترنا ذلك أم كان يحدث بشكل تلقائي، حيث تتدفق تلك الثقافة من الشاشات وتتداخل مع حياتنا اليومية. تصاحب السينما، إذا ما اقتصر حديثنا عليها، حياتنا في كثير من الأحيان منذ سن مبكرة للغاية وبشكل شديد الحميمية. فحتى قبل مشاهدتها على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، تحتل شخصيات أفلام والت ديزني، كما يشير إلى ذلك برتراند ماري، مكانة في حياتنا اليومية تظل دون نظير في تاريخ وسائل الإعلام الجماهيرية. من “ميكي” المرسوم على جدران المدارس في المخيمات الفلسطينية بجنوب لبنان، إلى وجه “الثلجة البيضاء” المطرز على ملابس الشابات الأنيقات في الأحياء الراقية في بكين، إلى “بامبي” التي تزين كبائن العاملات بخطوط التجميع على السفن/ المصانع في الأسطول الروسي بالمحيط الهادئ. ومن ثم لا عجب أن يشكل أول خروج للسينما جزءا من ذكريات الطفولة المسكونة بخيال ديزني، فقد عرف كل جيل تقريبا فيلما لديزني ارتبط بأعياد الميلاد “كتاب الغابة”، و”101 دالميشن”، و”ماري بوبينس”، و”قطط ذوات” و”ملكة الثلج”، وملكات أخريات يتلألأن مثل أمنيات الآباء والأمهات الذين يتطلعون إلى مشاركة أطفالهم لحظات من المتعة بمشاهدتهم لهذه الرسوم المتحركة معا. ويرى إيتيس أن “السينما تمثل شهادة ثقافية عميقة بالنسبة إلى أجيال من المشاهدين رافقتهم فيها”. وانطلاقا من الممارسات الفعلية لهؤلاء المتفرجين يسعى في الكتاب لإبراز كيف يمكن اللجوء إلى علم الاجتماع لفهم السينما وجماهيرها كواقع اجتماعي. "علم اجتماع السينما وجماهيرها" الصادر عن دار معنى وترجمته سلمى مبارك الأستاذة بجامعة القاهرة يشكل أداة مرجعية لعلم اجتماع الثقافة ولكل المهتمين بالسينما. ويضيف “إن علم اجتماع السينما قد تطور في ثلاث نواح رئيسية: دراسة السينما كصناعة ثقافية وجوانبها الاجتماعية والاقتصادية، ودراسة تمثيل المجتمع من خلال السينما، ودراسة السينما كمؤسسة اجتماعية للإنتاج والتلقي الثقافي والفني”. ويبين أن كل مجال من هذه المجالات يستحق أن نسلط الضوء على الموضوعات الجاري تناولها به على حدة؛ ولكن بدلا من مجرد الاكتفاء بعرض قد يشبه القائمة السطحية لما يقدمه لنا كل منها، فضلنا أربعة موضوعات دالة تخترق تلك المجالات الأربعة بشكل جزئي. ويشير إيتيس إلى أنه ربما لا تكون الرهانات التي تمثلها قاعة السينما واحدة بالنسبة إلى الجميع حيث يلتقي المنطق الثقافي والاقتصادي والحضري. إنها مكان عام تتقاطع فيه الحجج مما يجعلها حيزا فريدا، وهو ما يشكل واحدة من مفارقات السينما: إذا كانت السينما ترى نفسها فنا ذا توجه عالمي من حيث قدرتها على الانتشار، فإن هذا الانتشار يظل بلا شك مرتبطا بـ”حيز” محدد، يعتبره المتفرجون، الذين يذهبون لمشاهدة فيلم في “قناعتهم”، حيزهم الخاص. هذا هو أحد الأسباب التي جعلت كلمة “سينما” تتخذ بسرعة العديد من المعاني المجازية، فهي تشير إلى الإنتاج السينمائي وإلى القاعة التي يتم فيها عرض الأفلام، تماما مثل كلمة “المسرح” فهي تنطبق على المبنى بقدر ما تنطبق على النشاط الممارس فيه. ولا يمكن فصل التاريخ الاجتماعي للسينما ولجماهيرها عن تاريخ إنشاء قاعاتها وتحولاتها وانتقالاتها أو اختفائها. مع التطورات الحضرية، تمكنت السينما من إيجاد مكان لنفسها في المدينة إلى جانب المباني الأخرى ذات الطبيعة المعمارية الدالة مؤسسيا، مثل مبنى البلدية أو مجلس المدينة وقاعات المسرح، والتي تحولت في بعض الأحيان إلى قاعات للسينما والمدارس والمكتبات والملاعب والقاعات متعددة الأغراض أو مراكز التسوق في ضواحي المدن اليوم، من خلال تعرف مكان العرض السينمائي ومحاولة فهم كيف يخترع نفسه في المدينة. ويتابع أن المجتمعات السينمائية ذات الأشكال المعمارية المنقطة تعد أقل تأثرا بالهوية التاريخية للمدن، وكذلك أقل قدرة من قصور السينما القديمة على إثارة الخيال. ويعتمد وجود هذه المنشآت، التي تم تصميمها كشركات خدمية تخاطب الكل، على العرض السينمائي الذي تقدمه فقط. يأتي الناس إلى هنا بالأساس، وتنجح كثرة الملصقات التجارية في توجيه جماهير شديدة التنوع إلى هذه القاعات. فعلى كل متفرج أن يبذل نفس الجهد للوصول إلى هناك، وعادة ما يرحل سريعا بعد العرض، وهو ما يشكل نقطة قوة للمجتمعات السينمائية وكذلك نقطة ضعف. وتكمن قوة المجتمعات السينمائية في كونها تعمل كأماكن عامة لا تصادرها فئة معينة من السكان؛ أما ضعفها ففي قدرتها المحدودة على أن تصبح مكانا قادرا على تملّك مشاعر المتفرجين. وفي ضوء مجموع تلك الحجج ينبغي فهم المنطق الحضري الجديد للتنقل والتواصل الاجتماعي الذي أبرزته المجمعات السينمائية، وذلك في إطار من التكامل وليس التنافس مع قاعات السينما الأخرى الموجودة بوسط المدينة والتي تلعب دورا رئيسيا في نشر سينما المؤلف والأفلام الفنية والتجريبية. النجم والعلاقة الرمزية السينما باتت أقرب من أي وقت مضى السينما باتت أقرب من أي وقت مضى يعتقد إيتيس أنه لا يصبح أي شخص ممثلا سينمائيا، إذ يجب أن يبذل الجهد من أجل الوصول إلى هذا الهدف، ولا يتم إضفاء صفة النجومية على جميع الممثلين السينمائيين. ولا يتعلق الأمر هنا بالعمل لكن بالهالة، هالة سحرية تخلق وهما بأن النجم قد وصل إلى الموقع الذي يشغله لأن لديه استعدادا مسبقا، لأنه هو “المختار”. وبسبب مكانته، فإن النجم يتواجد بعيدا جدا عن أولئك الذين يعبدونه، لكنه في نفس الوقت أقرب إليهم من أي ممثل آخر، لأنهم يعدونه واحدا منهم؛ فلو كانت لديهم نفس تلك الهالة لكان من الطبيعي أن يكونوا مكان النجم الذي يعشقونه. تفسر جزئيا حالة النجم تلك، والتي يعتقد أنها متاحة لأي مجهول تحل عليه النعمة، تسامحنا مع كل تصرف مغال فيه قد يرتكبه النجم، بل إنه أحيانا ما يفعله ذلك باسم محبيه. فمن الأعراض الشائعة لتلك الحالة ما يدفع زوجين لإعطاء ابنتهما اسم إليزابيث عندما يكتسح فيلم “كليوبترا” الشاشات، أو اسم جيمس لابنهما عندما يكون شون كونري في ذروة مجده. وتنبع هذه الأسماء السينمائية من موقف قوي يعادل إعطاء أبوين مؤمنين ابنهما اسم أحد القديسين. النجم يوجد بعيدا جدا عمّن يعبدونه لكنه في نفس الوقت قريب إليهم لأنهم يعدّونه واحدا منهم ويرى عالم الاجتماع الفرنسي أن هذا الموقف يعبر بوضوح عن محاولاتنا بناء علاقة رمزية مع صورة العالم الذي يناسبنا، تلك الصورة التي تصبح فجأة ملموسة ومن الممكن الاستحواذ عليها من خلال اسم النجم الذي نحبه، ومعه نخلق نوعا من النسب. بهذا المعنى يشكل أسلوب حياة النجم خطابا جماليا بقدر ما هو اجتماعي، ولهذا السبب “فإن كلماته غير المهمة يتم الترويج لها وتكرارها والتعليق عليها إلى ما لا نهاية”. ولفهم مواقف المعجبين في إطار المنهج الاجتماعي، يقر إيتيس بأنه لا يجب مع ذلك النظر إليهم بتعالي المثقفين الذين يعتقدون أن “لا أحد سواهم في دور السينما يستطيع معرفة الفرق بين المعروض على الشاشة والحياة”. المتفرجون يعرفون الفرق، معتبرا أن ما يجعل النجوم مثيرين للاهتمام من المنظور الاجتماعي، هو اختفاء هذا الفرق عندما يتعلق الأمر بهم. وتتواجد أساطير النجوم في منطقة مربكة يختلط فيها الإيمان بالترفيه. فظاهرة النجوم هي جمالية، سحرية، دينية في آن واحد، وهي لا تتصف بواحدة من تلك الصفات دون الأخرى إلا عندما تصل حدودها القصوى. إن ما يدعو الأفراد إلى تبجيل نجوم السينما، من وجهة نظر إدغار موران يعود بأسبابه إلى تطور اجتماعي عميق متأصل في نبضات عالمنا المعاصر. ويؤكد إيتيس أن أفيش السينما هذا الوسيط المفوض من قبل العمل الذي يمثله، يصبح كذلك وسيطا مفوضا يعبر عن التوافق مع هؤلاء الذين يسكنون بجوارنا في أفلام حياتنا. تثري الأفلام التي نعلن عن حبها علاقاتنا الاجتماعية، مثلها مثل كل الأشياء الثقافية الأخرى التي تلعب دورا كبيرا في تشكل شخصيتنا طوال العمر، وبالتالي فهي تستبعد من لا يستطيع الدخول إلى عائلتنا الثقافية. ولكن الأفلام التي نعلن عن حبها في أحاديثنا تكشف ربما أكثر بكثير من المواد الثقافية الأخرى، عن تجربة وعن حياة عشناها داخل الفيلم على مدار زمن مشاهدته. ويشكل ذلك واحدة من السمات المشتركة التي تميز مجموع الخطابات المبنية حول “أفلام حياتنا” وهي أفلام نضفي عليها غالبا حماسة خاصة. ويضيف “بعيدا عن الخطابات يقرر بعض المشاهدين اتخاذ خطوة أخرى نحو الاقتراب بشكل كبير مما يعتبرونه عالم السينما، وذلك بأن يصبحوا هم أنفسهم ممثلين مؤقتين. كما هو الحال مع المشاركين في أكبر لقاء للسينما العالمية: مهرجان كان السينمائي. هنا تتجسد حقيقة الشغف بالسينما في بعد جديد تماما. توتر في تجربة المكان والزمان يجعل من كل موقف بالمهرجان مساحة رائعة وفخمة نمارس فيها الألعاب الاجتماعية. ألعاب تعيد رسم الحدود بين المقدس والدنيوي، حيث تضطرب الهويات مؤقتا ويستعيد الإنسان إنسانيته مع كل خرق للقواعد”. القوة العظمى للسينما اجتماعية، فهي تمنح كلا منا إمكانية ومتعة الحديث عن الأفلام التي نحبها أو نكرهها دون حرج في كان لا يشارك فقط النجوم والمنتجون والنقاد في هذا “المونوبولي السينمائي” الضخم؛ يشكل هؤلاء جزءا من ديكور تضع فيه الجماهير العادية والغفيرة من مشاهدي المهرجان المجهولين استراتيجيات مثيرة، بالمعنى الحرفي والمجازي، تمنح للتواجد في قاعة السينما معاني أكثر بكثير من معنى الجلوس داخل القاعة، على مدار العشرة أيام التي يستغرقها المهرجان. وفي ما يتعلق بسؤال عما يربطنا بالسينما، يرى إيتيس أن التساؤل عندما نطرحه بهذا الشكل على تجاوز التحليلات التقليدية لنسب الحضور أو لأرقام شباك التذاكر لكي يصبح اهتمامنا مسلطا على المكانة الملموسة التي تحتلها السينما في حياتنا. السينما في دور السينما، سينما الـDVD أو الـBlu Ray، تحميل الأفلام، القرصنة، شراء مواد أو وثائق متعلقة بالسينما أو إنتاج الأفلام أو توليفها، استخدام وظائف الكاميرا في الهواتف المحمولة، التواصل السينمائي الجماعي؛ لقد أتاح القرن الحادي والعشرون فضاء يسمح ببناء ممارسة سينمائية تجعل من الممكن إقامة علاقة ذات طابع شخصي متزايد مع الأفلام التي تتخلل حياتنا. لكن هذا المنظور السوسيولوجي يكشف كذلك حقيقة أن علاقتنا بالسينما، كممارسة ثقافية فريدة، تظهر طريقة للوجود، وطريقة للنظر إلى الحياة، ورغبة في إيجاد وسيلة للتواصل مع الآخرين من خلال الأفلام التي نحبها، ومن ثم الوصول إلى معنى المشاركة الجماعية. ويخلص إلى أنه إذا لم نتمكن من العثور على الكلمات المناسبة للحديث عن الاقتصاد أو السياسة، فنحن دائما ما نجد كلمات لوصف فيلم شاهدناه، مما يجعل السينما واحدة من أكثر مواد الحديث ديمقراطية. إلى جانب ذلك، يتبين لنا أن من يقومون بتصميم مواقع المواعدة على الإنترنت على صواب: فالأسئلة عن السينما وعن الفيلم المفضل توجد من ضمن الأسئلة الرئيسية التي تسمح بتعريف نفسك، وبالتالي بالحديث عن الذات. بل إن 91 في المئة من اللقاءات الأولى في الحياة الحقيقية والتي تتلو مقابلة على الإنترنت يكون موضوعها خروج إلى السينما.

مشاركة :