كان: محمد رُضا عندما تنطلق اليوم أعمال الدورة الـ67 من مهرجان «كان» السينمائي الدولي (من 14 إلى 25 الشهر الحالي)، يتكرر المشهد المعتاد في كل عام. مشهد لا بديل له. أنت الآن في مهرجان لا يتوقف عن الإدهاش، وأول ما يدهشك هو حيويته. إنه مهرجان لا يشيخ، بل يشهد كيف يشيخ سواه. مهرجان لا يتعب لكنه يُتعب. احتفال سينمائي عالمي رائع، لكنه متعة لمن لا علاقة لهم بالأفلام سوى حب مشاهدتها. كل هذا ليس جديداً لكنه في الوقت ذاته أبعد عن أن يكون روتينياً. أنت هنا يعني أنك بت جزءاً من آلة صناعية ضخمة تشمل كل شيء وتوزّع نشاطاتها على كل جوانب وشؤون السينما. تستطيع أن تتصوّر نفسك مثل المشهد الكلاسيكي لتشارلي تشابلن وهو يدخل بين عجلات الآلات الصناعية مارّاً بها كالمياه في الأنابيب. هناك حضور كبير من الجميع: منتجين وممثلين ومخرجين ورؤساء شركات وموظّفين ورسّامي لوحات على الطرق وموسيقيين ورجال أمن خاصّين وبائعي منتجات ومشتريها وموزّعين ومحامين وطامحين ونجوم ونقاد سينما وصحافيين ومئات المحطات التلفزيونية، خليط هو جزء من المشهد الكبير الذي ينتعش في كل دورة فيوقظ مدينة تكاد لا ترتاح من تظاهرة أو مهرجان حتى تبدأ بآخر. لكن على تعدد السينمائيين المشتركين فإن الملعب المشاد يبقى ملعب المخرجين. لا صوت في المهرجان يرتفع على أصواتهم. هم كل شيء. من دونهم ليس هناك شيء يُحتفى به. يستطيع «كان» أن ينعم بالزوّار، بالضيوف، بالترف الليلي والمشتريات النهارية، بالزبائن وبالمستأجرين، بالمتعبين وبالساهرين، العاملين والراقصين، ما دام ذلك اللفيف من المخرجين المشاركين موجودا. من دونهم لا احتفال. لا سينما. لا مهرجان. * سينما صالات الفن في «كان» تكتشف كل السينما. قبل الولوج إلى عالم المخرجين المؤلّفين والمخرجين الكبار والمخرجين الواعدين، لا بد من الاعتراف بأن السوق السينمائية هي جزء رئيس طاغٍ من أجزاء هذا المهرجان. حقيقة أن معظمنا لا يكترث له كثيراً، لا تلغي أنه الجزء المحرّك للنشاطات والمؤثر في سير المهرجان المسؤول عن قدر كبير من نجاحه. قوّة الأفلام المشتركة في العروض الرسمية وتعددها وجذبها لاهتمام النقاد والإعلاميين وأهل المهنة ليست مفصولة في نهاية المطاف عن كل جوانب المهرجان. لذلك فإن القادمين إلى المهرجان لكي يشاركوا بالأفلام الفنية لا يأتون بمفردهم، بل هناك من ينتهز الفرصة للبحث في فرص بيع الفيلم (اللهم إلا إذا كان مبيعاً لكل أنحاء العالم مسبقاً - وهذا نسبياً قليل). المخرجون أنفسهم لا يمانعون الوجود هنا للبحث في مشاريع مستقبلية، وقد أصبحوا الآن مطروحين رسمياً كمؤلّفين لسينما العالم. المدير العام للمهرجان تيير فريمو يوافق على ذلك:«أستطيع أن أقول إن سينما صالات الفن، السينما التي تركّز على الإخراج، السينما المُصمَّمة لأن تكون فنية الشكل، والتي هي عماد هذا المهرجان، هذه السينما قوية ومبدعة ومتعددة، وهي منذ سنوات تستعر مثل نيران مشتعلة». وحين سئل قبل أيام عن رأيه في أفلام مهرجانه هذه السنة جاء ردّه مثيراً للاهتمام: «أعتقد أن وضعنا اليوم مماثل لوضعنا في الستينات، فإلى جانب الأفلام التجارية التي كانت سائدة في ذلك الحين، لمع مهرجان (كان) وسلّط الضوء على مخرجين - مؤلّفين كانت لديهم نظرة خاصة للعالم. الناس جاءت إلى (كان) وإلى سواه من المهرجانات لأنها أرادت الاحتفاء بمبدعين عظام. اليوم، في عصر الدجيتال السائد، لا يزال الناس يأتون إلى (كان) للسبب نفسه. لكي يتعرّفوا على مخرج كبير ونتاجه». كلام لا يمكن إلا الموافقة عليه، تؤيده الأسماء الكبيرة المطروحة على خارطته هذا العام: جان - لوك غودار (بالأبعاد الثلاثة لو سمحت)، عبد الرحمن سياسكو، كن لوتش، مايك لي، بَنِت ميلر، أندريه زفاغنتزيف، توم إيغويان، ديفيد كروننبيرغ، ولا تنسَ نوري بيلج شيلان الذي حقق فيلماً طوله أكثر من ثلاث ساعات والذي لن يكف عن حضور «كان» إلى أن يفوز بالجائزة الأولى، تلك التي اقترب منها أكثر من مرّة في السابق. * لقاءات وفوارق إذن هي سنة السويسري جان - لوك غودار بالأبعاد الثلاثة في فيلم «وداعاً للغة»، وبالبعدين العاديين في فيلم آخر (مشاركاً اثني عشر مخرجاً آخر فيلماً حول اندلاع الحرب العالمية الأولى في «جسور ساراييفو»)، والتركي شيلان بحكاياته الشتوية في «نوم شتوي»، والسنغالي سيساكو بتأملاته الأفريقية عبر «تمبوكتو»، ثم هي سنة حافلة بالكنديين أتوم إيغويان وكروننبيرغ والبريطانيين مايك لي ولوتش والأخوين البلجيكيين جان - بيير ولوك داردن. سنة توفّر بعض الأسماء الجديدة أيضاً: داميان زيفرون («حكايات مجنونة») وبرتران بونيللو («سان لوران») وأكزافييه دولان («مومي»)، وسنة أسماء ما زالت حديثة في منتصف الطريق مثل اليابانية ناوومي كاواسي «جمد الماء» والفرنسي ميشال هازانافيتشوس «البحث» والأميركي بَنِت ميلر «قابض الثعلب». هؤلاء مخرجون لا يستطيعون اللقاء. الفوارق الفنية والاهتمامات الفكرية والشواغل الثقافية لكل واحد مختلفة تماماً كل عن الآخر. ما يعرضه الممثل - المخرج تومي لي جونز في «الفارس» أميركي محض، كذلك ما يعرضه مواطنه بَنِت ميلر في «قابض الثعلب». كلاهما يختلف أسلوباً وعملاً واهتماماً وصولاً إلى أدق التفاصيل. كذلك الحال، وبصورة جلية مع الكنديين أتوم إيغويان وديفيد كروننبيرغ والبريطانيين لي ولوتش. إنه كما لو أن جزءاً من الخطّة كان تقديم سباق داخل سباق: كل اثنين من سمة وهوية واحدة يستطيعان التنافس في ما بينهما بينما يتنافس كل منهما مع الجميع. هذا واضح في المثالين الكنديين: إيغويان يقف وراء فيلمه «الأسرى» ليغزل فيلماً تشويقياً موضوعه حول الاختطاف ومواطنه كروننبيرغ يجول في ما يجعل هوليوود في «خارطة النجوم». كن لوتش يعود إلى سيرة نقابي شيوعي في «قاعة جيمي»، ومايك لي يوفر دراما خفيفة لكنها أيضا اجتماعية صارمة في «مستر تيرنر». ولمن يحب أفلام التأمل والسحبات البطيئة الممعنة في الفرد ومحيطه لديه «ليفاياثان» للروسي أندريه زفياغينتزف و«نوم شتوي» للتركي نوري بيلج سيلان. كون «كان» ملعبا للمخرجين لا يعني أنه يملكون الملعب وحدهم. هو مهرجان فني متزوّج من الاحتفاء بالنجومية. السموكينغ بالجينز. الجد بالهزل. والفن الطارح لشواغل الفرد والدنيا من ناحية وشواغل السوق والربح والخسارة من ناحية أخرى. الشاشات التي تعبس من كثرة ما يمر عليها من أفلام جادّة، والسوق المقامة على بضع خطوات والتي يدخلها الباحثون عن مشاريع غالبيّتها هي عكس ما سبق كله. في الواقع، يبدو العالمان منفصلين بقدر ما هما متقاربين. «كان» بذلك عرس كبير لكن كل زوج يعيش في دارته: صالة السينما وسوق الأفلام. كل له جمهوره، حضوره، وحتى حديثه. وجزء آخر من هذه الازدواجية التي تتعايش رغم التضادات كامن في ذلك البعد الثقافي الشاسع بين القارات: الأفلام الأميركية تعبّر عن شيء مختلف تماماً عما يتطلع المخرجون الأوروبيون طرحه والتعبير عنه. وكلاهما مختلف في اهتمامه عن السينمات الأخرى. فريمو يحرص على شمولية مهرجانه: «بسبب اهتمامه بسينما المؤلف، فإن (كان) قادر على استيعاب أفلام من حول العالم نشطة في هذا المجال مثل الأرجنتين وكازاخستان والصين وحتى القارة الأفريقية لجانب، وعلى الرغم من المصاعب الاقتصادية، السينما الأوروبية ما زالت قادرة على تقديم أفلام رائعة من دول مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والسويد». فيلم الافتتاح «غريس موناكو» (Grace of Monaco) لأوليفييه داهان هو تعبير عن هذا الزواج بين الفن والترفيه. أريد له، كما عادة أفلام الافتتاح، الستارة الفخمة التي تكشف عن حفل كبير. وحين استعرض الرئيس جيل جاكوب (هذه هي دورته الأخيرة) والمدير العام تييري فريمو الأفلام الصالحة للافتتاح استقر الرأي سريعاً على هذا الفيلم الذي يحكي عن الممثلة غريس كيلي التي تركت التمثيل لتتزوج بأمير موناكو (الأمير راينر الثالث) سنة 1956. وصلت الممثلة إلى الإمارة سعيدة بما ينتظرها، لكنها عاشت فيها محرومة من الفن الذي أحبّته. حسب الفيلم هي دائماً ما حلمت العودة إلى التمثيل والعيش منتقلة بين موناكو وهوليوود، لكن الحياة في قصر الإمارة منعتها من هذا الطموح. هذا قد يعني نقداً مبطّناً للأمير راينر الثالث (يؤديه تيم روث)، ما أثار حفيظة أولاده الأمير ألبرت الثاني والأميرتين كارولين وستيفاني، فسبقوا الافتتاح بتصريح ذكروا فيه أن الفيلم يفبرك أحداثه و«يخطف تاريخ العائلة الشخصي». بالتالي، تعارض العائلة أن يطلق على الفيلم أنه سيرة ذاتية أو بيوغرافية. والمتحدث باسم العائلي الأميرية شدد على أن العائلة لا تود الارتباط بالفيلم ولا التعامل معه من قريب أو بعيد بسبب «تحريفه التاريخ لأغراض محض تجارية». تهمة لا يمكن نفيها، فكل لقطة مما شاهدته من الفيلم (مقاطع) تشي بحس بلاستيكي. جمال مرتّب بعناية، لكنها تشي أيضا بمواقف درامية مشحونة وبأداء لم تتمكن منه نيكول كيدمان في دور البطولة منذ زمن بعيد. لمعان مماثل لفيلم أوليفييه داهان يكمن أيضا في بعض الأفلام المختارة رسمياً لعروض خارج المسابقة وفي مقدّمتها «العودة للبيت» للصيني زانغ ييمو. هذا المخرج الذي كان نجم المهرجان في العقد الأخير من القرن الماضي، كان انقلب إلى مخرج استعراضي من النوع الجماهيري الشاسع. من مثير للمتاعب مع الرقابة الصينية إلى من يعمل بعيداً عن «وجع الرأس». لكن الأخبار تفيد بأن فيلمه الجديد مرمي على خلفية ما سمي بـ«الثورة الثقافية» في الستينات ولو أنه يقدّم قصّة حب أخرى من قصصه المركّبة. على أن الواقع هو أن هذه الأفلام المطرّزة بالفضّة قليلة في مقابل تلك التي تتحدّث عن شواغل العالم الحالي أو الأمس القريب: «الجيش الأحمر» تسجيلي عن لعبة الهوكي الروسية المسيّسة، و«مياه بالفضّة» للسوري أسامة محمّد يدور، بطبيعة الحال، حول العنف المستشري في سوريا والحرب الطاحنة فيها. هذا المخرج هو السوري الوحيد الذي نفذ إلى عروض «كان» الرسمية، وفعلها مرّتين في الواقع. الأولى عندما قدّم قبل سنوات كثيرة فيلمه الروائي الطويل الأول (والوحيد) «صندوق الدنيا»، وكان الاشتراك السوري الأول في تاريخ المهرجان أيضاً. وهناك فيلم حول سراييفو، التي لا تبدو اليوم كما لو كانت مشكلة آنية، لكن ثلاثة عشر مخرجاً آلوا على أنفسهم تناول ما حدث لها لا على ضوء هذا الماضي القريب فقط، بل على خلفية مائة عام مضت على اندلاع الحرب العالمية الثانية. * أعطني سعفة الأفلام التي فازت بالسعفة الذهبية خلال السنوات العشر الماضية؟ 2004: «فهرنهايت 9 / 11»: فيلم مايكل مور التسجيلي حول العملية الإرهابية (الولايات المتحدة). 2005: «الطفل»: فيلم دامغ من الأخوين جان بيير ولوك داردين (بلجيكا). 2006: «الريح التي هزّت الشعير»: دراما سياسية كالمعتاد من كن لوتش (بريطانيا). 2007: «4 أشهر، 3 أسابيع، ويومان»: دراما اجتماعية داكنة لكرستيان مونجيو (رومانيا). 2008: «الصف»: فيلم لوران كانتيه حول الغابة التي اسمها المدرسة (فرنسا). 2009: «الرباط الأبيض»: فيلم مايكل هانيكه عن نشأة فاشية بين الصغار (النمسا / فرنسا). 2010: «العم بونمي الذي يستطيع أن يتذكر حياته السابقة»: ماذا كان قصده؟ (تايلاند). 2011: «شجرة الحياة»: فضاء الفن والحياة والروح من ترنس مالك (الولايات المتحدة). 2012: «حب»: الفوز الثاني للمخرج مايكل هانيكه (النمسا / فرنسا). 2013: «الأزرق اللون الأكثر دفئاً»: فيلم عبد اللطيف كشيش عن المثلية (فرنسا).
مشاركة :