فتحت قضية إلقاء القبض على صيدلي في مصر اشتهر إعلاميا بطبيب “الكركمين” الحديث عن مدى قدرة الحكومة على محاربة الوصفات الطبية العشوائية، في ظل إدمان شريحة من المجتمع التداوي بالأعشاب تحت مسمى الطب البديل. ولم تتحرك نقابة الأطباء المصرية ولا الأجهزة الأمنية للقبض على الصيدلي أحمد أبوالنصر إلا بعد تسليط بعض رواد منصات التواصل الاجتماعي الضوء عليه، حيث كان يظهر على قنوات فضائية وعلى يوتيوب للترويج لمنتجه دون رقابة أو أسلوب علمي، ثم تبين أنه ليس طبيبا، وهو حاصل على بكالوريوس الصيدلة، وما يقوم به مجرد خدعة واستغلال لأمراض الناس. وتمثل بعض البرامج الطبية والإعلانات على منصات التواصل الاجتماعي عن الأدوية المستخلصة من الأعشاب مشكلة حقيقية في ظل تدني الثقافة الطبية عند شريحة كبيرة، بالتزامن مع غياب الرقابة الحكومية وعدم قيام الجهات الصحية بدورها للتأكد من صلاحيات المنتجات والتدخل لمنع تداولها بين الناس إلى لدرجة أن بعض الصيدليات في مصر أصبحت تقدم الأعشاب كعلاج بديل. ورغم ظهور أبوالنصرعلى الناس منذ سنوات وكان معروفا بسبب حضوره الإعلامي، صدمت نقابة الأطباء المجتمع بأن اسم هذا الشخص ليس مدونا في سجلات نقابة الأطباء، وغير مرخص له بمزاولة المهنة، واستبعدت علاقة الأعشاب بالتداوي من الأمراض. يعيد الشيخ إلى صباه ◄ الجهل ليس السبب الأول وراء التداوي بالأعشاب بدليل تهافت شخصيات ذات نفوذ مالي ووظيفي واجتماعي على وصفات العطارين أدمن باسم سعيد وهو شاب حديث الزواج استخدام الكركم في طهي الطعام، من كثرة ما سمع من أحمد أبوالنصر عن فوائده الصحية، وتحدث لـ”العرب” قائلا “لم أجد الكركمين في محال العطارة، وعوضت غيابه بالكركم الموجود عند كل محال بيع الأعشاب، من كثرة ما سمعت عن مزاياه الطبية من هذا الرجل في علاج ألم الأعصاب والمفاصل والحفاظ على شباب الجسد من الشيخوخة المبكرة”. وباسم من نوعية الشباب المدمنين على شراء التركيبة الخاصة بزيادة القدرة الجنسية من العطارين لاعتقاده أنها أقوى مئة مرة من الذهاب إلى أطباء الذكورة، فهو يخشى فضح خصوصياته في هذا الأمر أمام طبيب، لكنه سمع من عطار بأن هذه التركيبة جيدة، فصار يداوم عليها بأن يشربها بشكل دوري بعد غليها مع الماء، ويعتقد أن بها مفعول السحر، رغم أنه أقدم على الشراء وهو لا يعاني من ضعف جنسي. ولا يزال بعض المصريين يلجأون إلى التداوي بالطريقة التي يغلب عليها الاعتماد على الأعشاب بذريعة أنهم يحصلون على نتائج جيدة في بعض الأحيان، خاصة إذا كان الطب الحديث يقف حائرا تجاه بعض الأمراض. ولدى فئة من المصريين قناعة راسخة بأن العلاج الشعبي، مهما تقدم الطب، سوف يظل حلا سحريا للتداوي من بعض الأمراض وهي ثقافة تم توارثها، حيث كان الأجداد يعتمدون على الأعشاب في التداوي وفي كل منطقة وقرية شخص بعينه يقال إن لديه قدرة خارقة على تقديم وصفات طبية لها نتائج إيجابية. ومن هؤلاء نادية محمد، وهي معلمة ورثت ثقافة التداوي من بعض الأمراض عن أمها وجدتها من خلال الوصفات الشعبية مثل نزلات البرد والكحة وتساقط الشعر والبكتيريا وألم الأسنان، وكانت ترسلها الجدة إلى رجل كبير السن في القرية وهي صغيرة لتسأله عن وصفة طبية، فيقدم لها مجموعة أسماء لأعشاب قادرة على علاج الأمراض. واستمرت هذه الثقافة عند الأم والآن تحاول نقلها إلى أولادها بأن الابتعاد بعض الشيء عن الأدوية التي تحتوي على مواد كيميائية ضرورة والعلاج بالأعشاب مهم، لأنه مستمد من مواد طبيعية. وتقول نادية لـ”العرب” إنها مقتنعة ببعض الوصفات الطبية الشعبية التي يتم الترويج لها إعلاميا، وثمة أدوية تباع في الصيدليات ومعتمدة طبيا تدخل الأعشاب في صناعتها. ولا تزال الأم كلما أصيبت ببعض الآلام في المفاصل والعضلات أو تتعرض لنزلات برد تذهب إلى عطار شهير في المنطقة التي تعيش فيها لتشرح له ما يؤلمها ليقدم لها وصفة طبية من خلال قيامه بخلط بعض الأعشاب ويطلب منها تناولها بطريقة معينة، وبعد فترة تشعر بتحسن، وهكذا يتأقلم جسدها مع هذا النوع من التداوي. أعشاب التخسيس من الأصناف التي يقبل عليها المصريون بغض النظر عن الشريحة المجتمعية أو المستوى الثقافي ويمكن بسهولة اكتشاف تطور فكرة الوصفات الشعبية لتصبح أكثر شيوعا بين عامة الناس، وتكفي مطالعة طوابير من الدهماء والنبلاء تقف أمام محال العطارين في مصر، لاسيما الذين حققوا شهرة واسعة في مجال التداوي بالأعشاب، حتى صار الطب “البديل” جزءا أصيلا من بعض المنظومات العلاجية إلى درجة أن هناك عيادات خاصة به لمعالجة المرضى زعما أنها بديلة للطب البشري. واعترف محمد حسني وهو بائع عطارة شهير بحي المطرية في شرق القاهرة لـ”العرب” بأن أسعار العطارة والأعشاب تضاعفت منذ ظهور فايروس كورونا لتهافت الناس عليها، باعتبار أن نوعيات منها قادرة على علاج أي أمراض قد تعجز المنظومة الطبية الحديثة وكبرى المستشفيات عن الوصول إلى حلول علمية لها. وتعد أعشاب التخسيس واحدة من الأصناف التي يقبل عليها المصريون، بغض النظر عن الشريحة المجتمعية أو المستوى الثقافي، فهناك الكثير من المواطنين يصطفون أمام محل عطارة شهير يطلبون ما يسمى بـ”الوصفة السحرية للتخسيس”، وهي عبارة عن مجموعة من الأعشاب جرى خلطها معا يتوهم الناس أنها قادرة على إنقاص الوزن خلال فترة زمنية وجيزة. وحسب العطار محمد حسني، فإن خلطة التخسيس تتكون من البردقوش، النعناع، العرقسوس، الراوند الهندي والشاي الأخضر، وصار الكثير من الناس خبراء في طلب وصفات بعينها بحكم أن هذا ميراث قديم من الصعوبة زواله. وأوضح حسني لـ”العرب” أن تنوع المصريين من حيث الطبقات والمستوى العلمي عند شراء الوصفات الطبية الشعبية يرتبط بأن المجتمع يدمن الحكاوى، أي الاطلاع على تجارب الآخرين، فمن يتعرض لمرض جلدي يسأل مقربين منه عن العلاج، فإذا نصحوه بالأعشاب يسير خلفهم، وإذا نجح ينشر ذلك بين أصدقائه وعائلته، حتى صار الطب الشعبي جزءا أصيلا في وجدان البعض من المصريين. وهناك من يدمن الوصفات الطبية الشعبية لأسباب مرتبطة برفضه لتعاطي الأدوية والعلاج الكيميائي الذي قد يلحق به الضرر أو يتعرض لوعكة جراء بعض المضاعفات الصحية الجانبية للمستخلص الدوائي، ولدى بعض الناس فوبيا، خاصة كبار السن من الرجال والسيدات من مختلف الطبقات الاجتماعية. خداع العقل والبصر طبيب رعواني طبيب رعواني أمام الهوس بالتداوي بالأعشاب أصبحت محلات بيعها تعطي لنفسها صورة لائقة وطريقة تنافسية لجلب الزبائن، ولم تعد كما كانت تختزل نفسها في هيئة محل تجاري صغير مليء بالأكياس المكدسة والمبعثر، بل تقدم نفسها على هيئة صيدلية منظمة، أعشابها مغلفة في زجاج، ملصق على كل منها ورقة صغيرة تشرح استخدام هذا العشب، ومزاياه الطبية، ونوعية الأمراض التي يعالج منها. وأكد عادل بركات الباحث في علم الاجتماع بالقاهرة أن مشكلة المجتمع المصري مع الطب الشعبي متجذرة، فالجهل ليس السبب الأول بدليل تهافت شخصيات ذات نفوذ مالي ووظيفي واجتماعي على شراء الوصفات الطبية التي يقدمها العطارون، كأنهم خبراء في الطب، لكن المعضلة الحقيقية في كون الناس بلا أدنى ثقافة طبية، وهذا تتحمله المؤسسات الصحية والإعلامية والثقافية، لأنها تخلت عن دورها الأساسي في توعية المجتمع بالشكل الأمثل. وأضاف لـ”العرب” أن أزمة بعض المصريين في كونهم يدمنون العادات والتقاليد حتى في التداوي من الأمراض، فأي مسار سلكه الآباء والأجداد مقدس، ومهما تقدم العلم فالثقافة المتوارثة من الصعب تغيرها، وهو الوتر الذي يلعب عليه الكثير من دعاة التداوي من الأمراض بطريقة طبيعية دون الاعتماد على الأدوية المتعارف عليها بدليل أن كل المنظمات الطبية أجمعت على خطورة ختان الإناث، لكنه ميراث ثقافي وفكري، وهكذا ينطبق الأمر على الطب الشعبي الذي صار ينافس علم الحاضر. ويعتقد بركات أن جزءا من ثقافة انتشار العلاج بالطب الشعبي مرتبط بحالة اليأس عند البعض من العلاج بالأدوية المعرف بها علميا، وهناك إشكالية أخرى تتعلق بالبسطاء أنفسهم الذين لا يقدرون على العلاج بتكلفة مالية باهظة، فيضطرون إلى الاعتماد على الأعشاب كوسيلة رخيصة للتداوي. ولعبت بعض البرامج الطبية دورا مهما في تكوين معتقدات خاطئة عند الناس، إذ خاطبت الفقراء بنفس لغتهم، واليائسون من الشفاء باللعب على وتر تخفيف الألم، وهناك كثير من المصريين يدمنون ثقافة خوض التجارب ونشرها في محيطهم. وباتت العطارة أو التداوي بالأعشاب يتم تقديمها للناس من فئات مختلفة تحت مسمى الطب البديل لمنحها صك براءة يبدو علميا، ويعتمدون في ذلك على خارطة كان يتبعها الأجداد في الماضي لتمرير نفس الثقافة للأجيال التالية. ويسوق العطار حديث النشء للناس أنه ضالع في المهنة، وأنه ورثها عن والده الذي ورثها بدوره عن جده، وهكذا، لأجل أن يقنع الناس بأنه قادر على استكمال المسيرة. غياب الرقابة طبيب الكركمين يرى متابعون لظاهرة إدمان الناس استعمال الوصفات الشعبية أن غياب الرقابة أساس الأزمة، فهناك برامج طبية صارت تروج لسلع لم تحصل على الاعتماد الرسمي من الهيئات الطبية، مثل وزارة الصحة وشركات الدواء المعتمدة، ولا يتم وقف أو محاسبة القائمين على هذه البرامج، حتى محال العطارة نفسها تكتب وصفات علاجية وتقوم بتعليقها على مداخلها ولا يتم محاسبة المسؤولين عنها، وصار العطار في نظر بعض الناس أهم من الطبيب الحاصل على شهادات علمية من جامعات مرموقة، لكن لديه سياسة في الإقناع تغري المشتري بالاقتناع بوجهة نظره. وأشار محمد عزالعرب المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء أن المشكلة الحقيقية في انتشار ثقافة الطب الشعبي تكمن في عدم تفعيل القانون الخاص بمكافحة تداول أدوية وعلاجات غير مرخصة الذي صدر قبل أربعة أعوام بعد انتشار ظاهرة مبارزة العطارة للطب، والترويج لخلطات توصف بالسحرية دون دليل علمي، لكن المعضلة مرتبطة بعدم تفعيل العقوبات التي تصل إلى الحبس والغرامة. وأكد لـ”العرب” أن مواجهة الوصفات الطبية الشعبية بحاجة إلى ترهيب الفئة التي تلعب على وتر اليأس من العلاج بالدواء المعتمد، وأن العديد من الأعشاب لها تأثيرات جانبية على المصابين بأمراض مزمنة، وبعضها مسبب لأمراض متعددة، ومنها ما قد يسبب التسمم، لكن الناس يربطون الطبيعة بالسلامة الصحية. ولا يكترث الكثير من المصريين بمثل هذه التحذيرات الطبية من إدمان التداوي بالأعشاب والخلطات المصنعة عند العطارين أو التي يتم الترويج لها إعلاميا، ويبرر هؤلاء بأن التداوي بالأعشاب ليس حديث النشأة بدليل أن الطب الشعبي بدأ منذ زمن طويل، وكان الذي يداوي به يسمى عند قدماء المصريين “إله الطب”، في إشارة إلى قدرة الأعشاب على مداواة جميع الأمراض. وكان الطبيب المزيف أحمد أبوالنصر الذي روج لسنوات طويلة لمستخلص الكركمين قبل إلقاء القبض عليه ومحاكمته جنائيا يروج لنفس القناعة، في محاولة لإضفاء نوع من الثقة في الأعشاب التي يبيعها للناس وتأكيده دوما أن الطب الشعبي هو الأساس، والمصريون القدماء استخدموه في العلاج والتحنيط والزينة. وكان يدخل إلى المجتمع من بوابة أن الأجداد والمصريين القدماء والذين لم يكن لديهم الطب الحقيقي “فكيف كانوا يعالجون؟”، ليجيب على نفسه “طبعا بالأعشاب ومن بينها الكركمين”، وأقنع جمهوره أن ما يفعله صواب لا يحتمل الخطأ، وهي طريقة بائعي الأعشاب في الإقناع حتى أصبحت الوصفات العشوائية تهيمن على المزاج العام.
مشاركة :