تقدم وزارة التضامن الاجتماعي في مصر لكل متعاف انتهى من فترة علاجه من الإدمان قرضا يصل إلى مئة ألف جنيه لبدء حياة جديدة وإغراء باقي الشباب بالإقلاع عن التعاطي، لكن هناك تحديات كثيرة تواجه هذا المسار على رأسها الوصمة المستمرة تجاه هؤلاء ورفض الاحتكاك بهم أو التخوف منهم حتى في المعاملات الحياتية بدعوى ماضيهم السيء. لا يزال محمود محمد، وهو شاب مصري تعافى أخيرا من الإدمان بعد سنوات من تعاطي أغلب أنواع المخدرات، عاجزا عن تكوين أسرة، مع قدراته المالية التي تؤهله لذلك، فكلما تقدم لفتاة للزواج منها يأتي الرد بالرفض وعندما يستفسر من الوسطاء عن السبب، يعرف أن مسيرته مع الإدمان في الماضي كانت الدافع الأول لعدم قبوله زوجا، حتى لو تاب ورجع إلى طبيعته. معاناة مستمرة علي عبدالراضي: نسبة كبيرة من المتعافين لا يجدون الفرصة لإثبات الذات يعيش محمود الآن منعزلا تقريبا عن البيئة المحيطة، وأصبح مضطرا إلى تكوين صداقات جديدة بعيدا عن أصحاب السوء الذين اقترب منهم في الماضي وكانوا سببا في تعاطيه المخدرات، حيث أقنعوه بها حتى اضطر إلى خوض التجربة من باب حب الاستطلاع، وانقلبت حياته بعد أن صار مدمنها لها ولا يريد التعامل معهم، لكنه أيضا بات عاجزا عن بناء علاقات مع أصدقاء جدد. ويقول الشاب لـ”العرب” إن القروض الحكومية وحدها غير كافية لعودة المدمن التائب عن هجرة طريق الإدمان، فأغلب المتعاطين للمخدرات ذهبوا إلى هذا المسار لظروف نفسية واجتماعية وأسرية، وبعد أن يتم علاجهم طبيا ونفسيا هم بحاجة إلى أن يشعروا بأن الظروف التي قادتهم إلى الإدمان تغيرت، فقد تتسبب لهم العزلة في العودة إلى التعاطي مجددا. الانتكاسة تم علاج محمود من خلال مركز صندوق مكافحة الإدمان التابع للحكومة، ويرى أن الدولة توفر كل شيء للمتعاطي ليعود شخصا سويا دون أن يتحمل التزامات مادية، وكل شيء بالمجان، أيّ أن الحكومة تفعل ما عليها والمشكلة في المجتمع، فماذا تفيد الوظيفة والمشروعات الناجحة والقروض الضخمة مع أسرة وأفراد وبيئة لا تقبل المدمن الذي أقلع عن الادمان. وتعكس حالة محمود مستوى المعاناة التي يواجهها الشباب في أيّ مجتمع شرقي يدين بالولاء للعادات والتقاليد والأعراف، ويتعامل مع كل من يتجاوز هذه المقدسات باعتباره مجرما ولا يجوز التسامح معه أو احتضانه مرة أخرى، وهذا يرتبط بانخفاض منسوب الوعي وضيق الأفق وتراجع مساحة الانفتاح الفكري والثقافي عند شريحة من الناس. هناك ما يعرف بمرحلة الانتكاسة عند الشاب الذي أتم تعافيه من الإدمان، ترتبط غالبا بمسببات نفسية ومجتمعية جراء الفراغ الذي يعاني منه المدمن بعد التعافي، حيث لا يستطيع الاندماج بسهولة في المجتمع ويفشل في إقامة علاقات طيبة مع الأفراد وداخل عائلته، وقد يكون عاجزا عن العودة إلى ممارسة الأنشطة المفيدة، فيلجأ إلى الإدمان ثانية. يهرب الكثير من الشباب إلى الإدمان لمحاولة تغييب وعيهم عن كل ما يحيط بهم من سلبيات وتصرفات مشينة وظروف صعبة، سواء أكانت اقتصادية أو سياسية أو أسرية أو مادية، لكن تظل سرعة دمجهم في المجتمع بعد العلاج أحد أهم الأسباب التي تحول بينهم وبين العودة إلى التعاطي، فيشعرون بالعزلة واستمرار الوصمة ويفكرون في العودة. سامية خصر: توفير الأمان النفسي للمتعافين ينطلق من البيئة المحيطة وقال علي عبدالراضي، استشاري الصحة النفسية وتقويم السلوك بالقاهرة، إن نسبة كبيرة من الشباب المتعافين لا يجدون الفرصة المناسبة لإثبات الذات والاندماج بالمجتمع لاستمرار مطاردتهم بلقب المدمنين، وأصعب مرحلة تهدد السلامة النفسية لمن تم علاجهم من التعاطي هي العودة إلى البيئة المحيطة، فإذا كانت إيجابية فهذا يحفزهم، أما النظرة السلبية فهي مدمرة للمعنويات. وأضاف لـ”العرب” أن شعور الشباب المتعافين بأنهم مشكوك في سلوكياتهم حتى بعد العلاج وتضييق الخناق عليهم ورصد تحركاتهم وتجنب الاقتراب من الأسرة أو زملاء العمل أو غيرهم، يصيبهم بالإحباط، وقد يندم البعض على التعافي، وهناك من تتسرب إليه فكرة اليأس والإحساس بالعجز ليعيد التفكير في التعاطي للتخلص من هذه الأفكار. ومشكلة الشاب الذي تعافى أنه في غالب الأحيان يكون عاجزا عن إيجاد وظيفة مناسبة، خاصة أو حكومية، لسابقة مرتبطة بكونه مدمنا باعتبار أن سيرته الذاتية ليست نزيهة بالقدر الذي يجعله يتحمل مسؤولية التعامل مع الناس في بيئة العمل، وهذا في حد ذاته مدمر للنفسية، ويتبع ذلك عدم استطاعته بناء أسرة سوية، إضافة إلى ندرة موارده المالية، فيتملكه اليأس. ووفق دراسات وأبحاث عديدة مرتبطة بالشباب المتعافين من الإدمان، فإن أهم أسباب الانتكاسة شعورهم بأن العوامل التي أدت إلى الإدمان لم تتغير، فحين يشعر الشاب بعدم قدرته على التكيف قد يلجأ إلى التعاطي مرة ثانية حتى يقل الألم الناتج عن عدم القدرة على التكيف مع البيئة أو يشعر بالأمان تجاه المحيطين به. صحيح أن ثمة متغيرات إيجابية وصار الناس أفضل من ذي قبل في الإيمان بضرور تعافي المدمنين، لكن فكرة التخوف من الشباب المتعافين من الإدمان لا تزال مسيطرة على بعض الأفراد، وهو ما يتطلب جهودا كبيرة من الحكومة لتغيير هذه القناعات، فلا توجد خطط أو برامج توعوية تسهل مهمة إدماج المتعافي أو خطاب إعلامي محدد يتطرق إلى هذه المشكلة. تفتقد المناهج التعليمية المختلفة التطرق إلى إشكاليات ما بعد التعافي من الإدمان وبناء مجتمع واع لديه قدر من الانفتاح والقوامة النفسية في التعامل مع المخطئين، مهما كانت سلوكياتهم في الماضي، طالما أنهم عادوا إلى الحياة، وبالتالي لهم الحق في التعامل معهم بإنسانية قبل أن يعودوا من جديد إلى عالم الإدمان. دراسات تؤكد أن أهم أسباب انتكاسة الشباب المتعافين من الإدمان شعورهم بأن العوامل التي أدت إلى الإدمان لم تتغير تزداد الحاجة الملحة إلى مناهج تعليمية توعوية بارتفاع منسوب تعاطي الإدمان بين الشباب في الحقل الجامعي، كنوع من تفريغ الطاقات السلبية أو إثبات الذات أو الهروب من الأزمات الأسرية وملء الفراغ الذي تعيشه هذه الفئة في ظل التهميش العام. ويعتقد متابعون أن التشدد الحكومي في التعامل مع المدمنين في الجهاز الإداري للدولة وفصلهم من الوظائف فور اكتشاف تعاطيهم، ضاعف من الشكوك والنظرة السلبية من المجتمع لكل من يُتهم بالإدمان، وإذا كان هذا مطلوبا لتطهير المؤسسات الرسمية من المتعاطين، لكن عدم التدرج في العقوبة وتجاهل استخدام النصح أولا في العلاج نتجت عنهما تبعات قاتمة. ولأن الحكومة المصرية لا تتقبل فكرة عودة الموظف التائب إلى عمله من جديد، فهذا ترك انطباعات سلبية عن المتعافين بشكل عام، والمفترض أن المدمن طالما تمسك بأن يكون إنسانا طبيعيا، فالمطلوب مساندته طوال حياته، لا معاقبته بقسوة لمجرد أنه ارتكب خطيئة ندم عليها، فالشاب عندما يفصل من وظيفة لأنه مدمن، وحتى لو عولج، سوف تظل هذه الوصمة تطارده إلى الأبد. تزداد الأزمة النفسية عند الشباب الذين كانوا مدمنين سابقين وتحولوا إلى معالجين في مجال تأمين المتعاطين، ويواجه بعضهم نبذا مجتمعيا بسبب الماضي الخاص بهم، فرغم كونهم يقدّمون خدمة لمجتمعاتهم، لكنهم يجدون صعوبة في التأقلم وإزالة الوصمة التي طالتهم، ويتعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، إلا ما ندر منهم. تتعامل بعض الأسر مع الابن التائب عن الإدمان باعتباره تسبب لهم في وصمة ويظل في نظرهم الشاب العاق غير السوي، ولو عاد إلى طبيعته وقرر أن يتحمل المسؤولية ويبني نفسه من جديد بإقامة مشروع أو الالتحاق بأي وظيفة، إذ يكون بالنسبة لعائلته مشكوكا في سلوكياته دائما ولا يجب منحه الأمان الكامل، بما يجعله يائسا ومنكسرا. المتعافي والمجرم الحقيقي الحاجة ملحة إلى مناهج تعليمية توعوية الحاجة ملحة إلى مناهج تعليمية توعوية المشكلة أن المجتمع قد يتقبل التعامل مع مجرم سابق لأنه قضى فترة العقوبة في السجن، ولا يمنح نفس الحق لشاب تائب عن الإدمان، بسبب الفوبيا من فكرة تعاطي المخدرات عموما، وطوال الوقت يفكر البعض في المدمن التائب على أنه مشروع مجرم يمشي على الأرض، ولو تراجع عن هذا الطريق، لكنه قد يعود إليه في أيّ لحظة، ومن الصعب الوثوق فيه. لا يدرك هؤلاء أنهم كانوا أحد الأسباب الرئيسية في إدمانه أول مرة، وعدم القدرة على استيعابه بالشكل الأمثل بطريقة إنسانية، فقرر الهروب منهم بتغييب وعيه من خلال المخدرات، وإذا لم يجد منهم ما يتمناه بعد العلاج واستمرت النظرة إليه كشاب فاقد للأهلية أو جرثومة تنخر في المجتمع، لن يجد ملاذا آمنا سوى العودة إلى الإدمان. وتعتقد سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة، أن توفير الأمان النفسي للشباب المتعافين من الإدمان ينطلق من البيئة المحيطة والإعلام والدراما التوعوية، لا التي تكرس العداء ضد المتعافين من الإدمان، وهنا المجتمع يجب أن يكون قدوة لهم في تقبلهم بعد العلاج، لأن استمرار نبذهم يجعلهم يستسلمون للإحباط، وأكثر عرضة للعودة إلى التعاطي لتهدئة روعهم وخوفهم من المستقبل المجهول. مشكلة الشباب أنهم في غالب الأحيان يكونون عاجزين عن إيجاد وظيفة مناسبة، خاصة أو حكومية وأكدت لـ”العرب” أن حالة الفراغ التي يمر بها معظم الشباب يجب ملؤها عبر الأسرة والمجتمع والأصدقاء وبيئة العمل، لأن العزلة تقود إلى سلوكيات مشينة مثل الإدمان، والشاب الذي تعافى من التعاطي يظل مترقبا طريقة استقباله من البيئة المحيطة، ويفكر كثيرا في كيفية التعامل معهم وقد يواجه صدمة عدم قبوله فيُحبط وينكسر. ويلجأ بعض الشباب إلى تفريغ الطاقات المكبوتة بداخلهم عبر طرق عديدة بينها المخدرات، لأنهم وجدوا أمامهم الأبواب المغلقة للتعبير عن أنفسهم وإثبات ذواتهم بمسارات مقبولة، وهناك شباب من المتعافين يحاولون بشتى الطرق إثبات قدرتهم على أنهم ناجحون، فيصطدمون بردة فعل سلبية من البيئة المحيطة تحبط معنوياتهم. ومن شأن استمرار الوصمة المجتمعية تجاه الشباب المتعافين من الإدمان أن ينعكس على تهديد الأمن الداخلي للدولة، لأنها ستفقد جزءا من أهم الشرائح الفاعلة، لديها قدرة على العطاء والجهد والبناء والتنمية والإنتاج، طالما استمر التعامل مع المدمن على حاله. مهما كانت جهود الحكومة كبيرة لإعادة تقويم سلوكيات الشباب الذين وقعوا فريسة للإدمان، بمنحهم القروض والمساعدات دون برامج لآليات دمجهم وإقناع الشارع بمختلف فئاته وطبقاته وانتماءاته الفكرية والثقافية بحتمية قبولهم كشركاء ومواطنين طبيعيين، فنتيجة البرامج العلاجية لن تكون مجدية تماما، طالما أن الهدف المطلوب لم يتحقق، فتبقى الطاقات الشبابية معطلة وغير قادرة على تحمل المسؤولية.
مشاركة :