في نادي الرفاع الغربي القديم، حيث تشكلت فرقتنا المسرحية التي احتوت شبابًا هواة عاشقين للمسرح من الرفاعين، شهدت عيناي أول بروفة مسرحية، وكانت هذه المسرحية هي أول نص مسرحي أكتبه (من الغلطان)، وكان مخرجه الفنان الصديق عبدالله السعداوي، والمشرف عليه الأستاذ والكاتب الصديق حمد الرمزان النعيمي. وكانت البروفات كما أذكر تبدأ بعد المغرب مباشرة على خشبة مسرحية صغيرة منهكة يتم ترميمها بين حين وآخر أثناء البروفات، وكان الفنان السعداوي المخرج غالبا ما يكون هو أول من يصعد الخشبة، ويرتجل أدواره وأدوار كل الممثلين في المسرحية عليها، وكما لو أنه يحفز فريق العرض على الجرأة وإزاحة كل خجل من نفوسهم. تبدأ البروفات بتعليقات طريفة من هنا وهناك وغالبا ما يبدؤها الفنان الراحل محمد خلف الدوسري (بوصابر) الذي لم يسلم أحد من تعليقاته الطريفة والبريئة وكما لو أنه يقوم أيضا بدور مواز للمخرج السعداوي من باب إزاحة أي خجل أو تكلف أو حرج. وما أن يأخذ الفنان الراحل غالي راشد موقعه على الخشبة لأداء الدور الرئيس في العرض، وهو التاجر المتورط في جريمة بسبب جشعه، حتى يسود الشعور لدى الجميع بأن البروفة الآن قد بدأت. وأذكر أن الفنان غالي راشد كان أكثر الممثلين حرصا بالالتزام بالنص، ودائما يأتي والنص بحوزته، وهو على الخشبة تلحظه يقرأ النص وبقية الممثلين لا يزالون يستعدون لتهيئة أنفسهم بحوارات بعيدة عن العرض. المخرج السعداوي الآن يصعد الخشبة، يتحدث مع غالي راشد حديثا هامسا، وما هي إلا لحظات حتى تبدأ البروفة، فنلحظ فجأة علو صوت غالي راشد وانفعالاته وحركات السعداوي السريعة غير المحددة الاتجاه، محفزاً بذلك الشخصيات الأخرى لصعود الخشبة والقيام بأداء أدوارهم، وما إن يتخلف أحد منهم او يتردد في صعود الخشبة حتى نرى السعداوي يستشيط حركة وتعليقا ساخرا أحيانا، حتى يضطر هذا المتردد إلى الصعود على الخشبة، ويكون لحظتها بين فكي كماشتين، السعداوي وغالي راشد، خاصة وأن الفنان غالي هو أكبرهم سنا وأكثرهم مراسا في التمثيل وربما أكثرهم حماسا. تبدأ البروفة ويتحرك النص ويبقى الممثل في رهان صعب بين حفظ الدور أو تجسيده على الخشبة، وأذكر كم عانى السعداوي مع بعض الشباب الذين يصعدون لأول مرة خشبة مسرحية ويمثلون. كانت البروفة أشبه بعرض يومي يقدم، ذلك أن حوش النادي لا يخلو من جمهور الأعضاء والمترددين عليه، خاصة وأن النادي بيت في أحد أحياء الرفاع، إذ كثيرا ما استوقفت أصوات الممثلين بعض المارة بجوار النادي، الذين أخذهم فضولهم إلى دخوله والوقوف لمتابعة ما يجري على خشبة المسرح. وكان السعداوي بطبيعته وعفويته في علاقاته مع كل من يلتقيهم ولو للمرة الأولى، قد استطاع أن يحفز بعضهم للمشاركة في البروفات حتى وإن لم يمثلوا، وربما استطاع أيضا أن يثري الفرقة ببعض المواهب الشابة التي حرصت على حضور البروفات حتى وإن لم يكن لها دور في المسرحية. تتواصل البروفات يوما بعد يوم، وينزاح الخجل والحرج من نفوس الممثلين، لنرى العرض يتشكل والممثلين صاروا أكثر حماسا للصعود على الخشبة بدلا من قضائهم بعض الوقت كما كانوا في البدايات في حديث وتعليقات تسرق الكثير من وقت البروفات. أما الفنان غالي راشد فيبدو أنه سكن الخشبة ولم يغادرها، وأصبحت هذه الخشبة بالنسبة له هي متجره وبيته ومكان لهوه وعبثه وجرائمه، وكان الغالي فعلا حينما يؤدي الدور يصبح كائنا مهيبا ويصعب أن يجرؤ أحد الشباب أن يجاريه في دوره أو أن يقترب منه بسهولة، ولولا السعداوي وطريقته في إزاحة هذه الرهبة وكسر هذه الحواجز لظل الفنان غالي وحده على الخشبة. وبعد أن ينتهي السعداوي من كل بروفة، يستحث مخيلته كما العادة على تخيل وتصور أمور ربما لا تمت للعرض مباشرة، ولكنه فقط يريد أن يحفز خلايا المخيلة وينشط عضلتها لدى فريق العرض كي يصبح مهيأ لاقتحام التجربة ومخيلته خير مسعف لدوره في أثناء أدائه. اليوم الأخير للبروفات يتحول الممثلون إلى كل شيء في هذا النادي، فتدب الحياة فيهم ليكونوا أول من يقوم بترتيب المكان والخشبة وصف الكراسي ومتابعة الاكسسوارات، بجانب استعدادهم لأداء أدوارهم وأداء أدوار غيرهم إذا تعذر حضور أحدهم. وأذكر أنه ولظرف طارئ وخارج عن الإرادة، قد تخلف أحد الممثلين عن حضور العرض، وهو الصديق سعد الرويعي (ضحية العرض)، فلم يجد السعداوي مناصا من صعود الخشبة والقيام بدوره، ليضفي بروحه الارتجالية المعهودة أجواء أخرى اقتربت من لحظات (التغريب) في المسرح البريشتي، خاصة عندما سقط صريعا على خشبة المسرح إثر حادث أليم، وفاجأ الجمهور بأنه لم يكن ميتا، ليثير غرابة وضحك الجمهور ويخرجهم من حالة التأثر المأساوي بالحادث الأليم. هي البروفة الأولى التي أشهدها في حياتي المسرحية مكتملة، لحظة بلحظة ويوما بيوم، ليزداد بعدها تعلقي بالمسرح بوصفه حياة وفعل وموقف وتجسد وليس كلمات تكتب على ورق فحسب.
مشاركة :