الخال مبارك الحمدان أول أفضية التحليق في حياتي المسرحية

  • 5/4/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعتبر الخال العزيز مبارك بن علي بن راشد الحمدان رحمة الله عليه، حالة إنسانية وثقافية فريدة من بين أفراد العائلة الذين عشت طفولتي الستينية بينهم وفي كنفهم، فهو كائن متعدد الأدوار والطباع، وكل دور من هذه الأدوار يضفي على طباعه سمات إنسانية وثقافية تثري مجمل حياته العامة، وتثري تجربته الخاصة الخصبة عبر تعامله اليومي مع محيطه العائلي والاجتماعي، وهي سمات أزعم أنها اجتمعت كلها في ذاته لتشكل منه كائنا خبر أهمية وضرورة التعدد في الأدوار المسرحية التي تشظت بها هذه الذات بشكل عفوي وتلقائي ودون قصد.  الخال مبارك، نموذج عاكس تيار عائلته وخاصة والده وشقيقيه الأكبر منه سنا راشد وأحمد رحمة الله عليهم، واختار لحياته أن يكون طيرا فضاؤه الحياة الواسعة بما تحتويه من تباينات وتفاصيل دقيقة، على عكس أفراد عائلته الذين استقر بهم الحال في مواقع المسئولية الصارمة المحددة في طبيعتها والتي تقتضيها ظروف العمل وولاية الأمر في وقت مبكر. هذا الطير المختلف الذي راقبته طفولتي في وقت مبكر، اختار أن يحلق في عدة أفضية عملية وحياتية زادت أجنحته صلابة وخفة وقدرة على اكتشاف ذاته المتأهبة لخوض كل جديد ومغاير في هذه الحياة، فقد عمل في شركة بابكو التي كانت ولا تزال تضم بين جناحيها نماذج مجتمعية بحرينية وأجنبية أسهمت بلا شك في توسيع رقعة علاقاته ومراكمة خبرات جديدة في حياته وجعلته قريبا من أمزجة اجتماعية مفتوح أفقها على عوالم عدة، ومن بينها السفر واكتشاف ثقافات جديدة من خلاله، فهو بالرغم من كونه أحد أهم صقور كرة القدم في الرفاع الغربي، والذي يتكئ الفريق كله على ضرورة تواجده في المباريات المهمة التي لا تدع له مجالا يسترخي فيه من بعد عودته من العمل عصرا، حيث يغير ملابس العمل بملابس الرياضة غالبا وهو على الخط الساخن للملعب، بالرغم من كونه كذلك، فهو في الوقت نفسه ذلك الطير الرقيق الوديع الذي يعشق التحليق الحر في مدن وأرياف البلدان التي يقصدها ويرتوي من مياه أنهرها ومن معين ثقافاتها، لذا كلما اقترب كثيرا من هذه الحياة، كلما اختار عملا يقترب أكثر فأكثر من هذه الحياة، عملا لا يلزمه ولا يجبره على تحديد رحلة تحليقه وفق أوامره.  فالخال مبارك والذي وعت عيناي عليه شابا ممشوقا موشى وجهه الحنطي بابتسامة ودودة تطفح السخرية أو الطرفة أحيانا من بينها على غير قصد أحيانا وبقصد في أحيان أخرى، هذا الخال، تلحظ خفة هذا الطير وروحه في إيقاع مشيته الخفيفة والسريعة أحيانا، وكما لو أنه على موعد مع سفر آخر يخشى أن يتباطأ قليلا فتحلق الطائرة دونه، لذا وبعد اختباره لأفضية عمل متعددة يستقر أمرها على الأرض، آثر أن يعمل في الطيران ويكون بجوار أجنحة الطائرات وبالتالي يسهل أمر تحليق أجنحته الحرة متى رغب ومتى شاء دون تعقيدات أو كوابح إلزامية.  وكانت مصر الكنانة وطن عشقه الأول، والتي أصبح على تماس ساخن وحميمي مع فنونها وثقافاتها الخلاقة والثرية، ولم يهدأ له بال إلا بزواجه من أم أسامة، وهي من العائلات المصرية الكريمة، والتي أسهمت في تربية أبنائه وبناته الذين أنجبتهم منه خير تربية وكانت نعم الزوجة والأم التي أصبحت عشا دافئا لهم في الوقت الذي كانت أجنحة الخال مبارك تغويها أفضية السفر إلى بلدان أخرى. أما الأمر الآخر الذي جلبه الخال مبارك معه من السفر إلى مصر، هو المجلة والكتاب، واللذين على ضوئهما فتح أول مكتبة خاصة في الرفاع الغربي، استفاد منها أهل الرفاعين (الغربي والشرقي)، وكنت وأنا طفل من الذين ارتادوا هذه المكتبة واستعار في (خلسات) كثيرة بعض مقتنياتها، حتى آلت هذه المكتبة فيما بعد إلى صديقه خليفة الظهراني رئيس مجلس النواب السابق، ذلك أن الخال مبارك لا يمكن أن تستقر أجنحته على فضاء واحد، فهو الطير الحر الذي عهدته منذ طفولتي.  ومن مكاسب مصر الأخرى والتي أزعم أن الخال مبارك قد جلبها معه إلى بلده البحرين، هي حضور بديهته في السخرية والهجاء، خاصة وأن مصر هي بلد النكتة والسخرية والهجاء بامتياز، فأنت في مصر أمام مواقف تدعوك للنكتة أو السخرية في اللحظة ذاتها، وليس من خلال الأفلام الكوميدية الساخرة فحسب، لذا أصبح الخال مبارك شخصية لطيفة ومحبوبة في الوسط الاجتماعي في الرفاع الغربي، ولا تحلو المجالس في الرفاع إلا بحضوره شخصيا بين مرتاديها.  ولأن الخال مبارك متأهب للتحليق كما اعتاد واعتدنا عليه، آثر أن يكون الطير بجواره في بيته، وأذكر أنني لأول مرة في حياتي أرى أنواع غريبة من طيور الحمام في بيته الذي استقر فيه شمال الرفاع الغربي بجوار شقيقه الخال أحمد وعائلته، حمام من فصائل مصرية وباكستانية وكبيرة إذا ما قارنا حجمها بحجم طيور الحمام التي نعرفها في البحرين والخليج العربي، وكان يوليهم اهتماما كبيرا وكما لو أنهم طائرات المدرج الذي سيحلق من خلالهم إلى بلدان أخرى.  كل شيء في بيت الخال مبارك يوحي ويومئ إلى السفر، إلى الطير، إلى الحرية المحلقة، فبجانب هذا الطير كان الخال مبارك يهوى جمع الطوابع التي كان يودعها في ألبومات خاصة بها، وكم يسعدني ذلك وأنا أتفرج عليها طفلا في بيته، حتى استهوتني وصرت من جامعيها وهواتها لفترة معينة من حياتي، خاصة بعد ولعي بالمراسلات من خلال مجلة الموعد المصرية التي حفزتني ابنة الخال هيا بنت أحمد الحمدان رحمة الله عليها على التورط الجميل فيها مبكرا.  وذائقة الطير الحر، الخال مبارك، تعاود التحليق ثانية عبر افتتاحها كافتيريا للحلاوة والكعكة، وبعدها بوتيكا للملابس النسائية، ومن ثم مكتبا لخدمات الأيدي العاملة، إلا أن الطير يظل عشقه الأول والأخير، فحين استقر في بيت يملكه بمدينة عيسى، عاد بشوق لا حدود له إلى الطير، وكانت طيور الزينة بأنواعها المختلفة الزاهية التي يجلبها من بلدان مختلفة أثناء سفراته المتعددة والمتنوعة هي روحه وأجنحته، ولا يطيب لوالدتي شيخة بنت علي بنت راشد الحمدان شقيقته أن ترتاح إلا بجوار الخال مبارك في غرفته التي جعلها فضاء حرا لبعض الطيور ودون أقفاص، ولعل الخال مبارك آثر أن تكون هذه الطيور بجواره حرة، بعد أن تم سرقة مجموعة نادرة من فصائل الطيور التي خصص لها قفصا بحجم غرفة كبيرة.  في هذه الغرفة وقبلها رأيت حوارا آخر غير الذي رأيته يجري بين الجد علي بن أحمد الحمدان مع حمامه وبين الجد علي بن راشد الحمدان مع صقوره، رأيت الطير تعيش وتطمئن لمن يجالسها ويصغي إليها، رأيت الخال مبارك وكما لو أنه يستحضر كل الوجوه بألوانها وأنواعها من خلال هذه الطيور التي رافقته حياته كلها، رأيت أفضية عدة لتحليق المخيلة في المسرح من خلاله، ربما تكون أفضية تجريبية جديدة لم أعهدها في حياتي إلا من خلاله، أصغيت لأصوات لا يفهما إلا من عايشها حد التمازج أو التماهي، ولعلني، بوعي أو دون وعي، ألفت وأخرجت مسرحية (ميلاد شمعة) التي تتكئ فقط على الصوت البشري بوصفه حالة درامية بعيدة عن اللغة المفهومة مباشرة، وهو أول عمل مسرحي صوتي يقدم في البحرين، وقد اخترت له فضاء مختبريا في بيت شعبي يدعى بيت (يوسف غاز) المجاور لمدرسة الرجاء الخاصة بالمنامة.  هو الخال مبارك الحمدان الذي غادرنا بروح طائر وظل يحلق في أفضية حياتي حتى هذه اللحظة، وكما لو أنه يستفزني للتحليق مجددا في فضاء تخيلي جديد يقترح علي كتابة عرض آخر مغاير.

مشاركة :