مشكلة صديقي الملحد

  • 11/28/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

من الطبيعي أن يمر الإنسان بأزمات فكرية وإيمانية خلال حياته، وكلما زاد بحثه واطلاعه، ازدادت معدلات الارتباك في حياته. وهذا أمر صحي بخلاف ما يعتقد بعض الناس من أن الشك قد يقود إلى الإلحاد، فشكّ المتسائل الجاد في معرفة الحقيقة سيقوده، غالباً، إلى الإيمان، أو إلى الطريق المؤدية إليه. تماماً كما فعل الفيلسوف العقلاني «رينيه ديكارت»، صاحب مدرسة الشك المنهجي، الذي لولا شكّه لما وظّف البداهة «تصورات النفس»، والاستنباط «عملية عقلية تستخدم الفكرة البديهية، وتحللها لتصل إلى تصورات ونتائج جديدة» للوصول إلى اليقين. وهو منهج توسع فيه ابن رشد من قبل، وكان يرى أيضاً أنه إذا خالفت الشريعة البرهان «أي الدليل العقلي»، فعلينا أن نعيد تأويل فهمنا للأول ليتناسب مع الثاني. ولو تحدثنا بمقاييس اليوم، يمكننا أن نقول إنه إذا ثبتت حقيقة علمية، ووجدنا خلافاً لها في النصوص الشرعية، فلابد أن نعيد فهمنا للنصوص بما لا يتعارض مع العلم، فإلغاء العلم بفتوى، أو بفهم بسيط للنص الشرعي، هذا الفهم الذي غالباً ما يقوم على التفسير المباشر لظاهر النص، هو في الحقيقة ما يُؤزِّم العلاقة بين العلم والإيمان، وهو إحدى المشكلات التي تدفع بتيار الإلحاد للانتشار سريعاً في الدول الإسلامية، الذي يبدو أفراده أنهم ينتمون إليه هرباً من قسوة الخطاب الديني اليوم، وأفكاره التي تخلو غالباً من عمق وفهم للواقع ومتغيرات الحياة. قال لي أحد الملحدين إنه جادل بعض رجال الدين، وطلب منهم أن يثبتوا له وجود الله «علمياً»، فعجزوا، فسألته: وهل حاولوا أن يثبتوا وجوده لك عن طريق البرهان؟ فتعجب وقال ما البرهان؟ قلتُ له إنه سيجد في مذهب ابن رشد أجوبة لن يجدها عند رجال الدين اليوم عندما يتعلق الأمر بالوجود؛ لأنه استخدم البرهان العقلي كما لم يستخدمه أحد قبله. فالناس، والعرب خصوصاً، تستخدم عدة أنواع من الحجج عند الحديث، منها الحجة البرهانية، التي برع فيها ابن رشد أيما براعة، ويَسوُق فيها مقدمات وأدلة يقينية عن طريق الاستدلال المباشر، مثل: برهان العدد الزوجي، فمثلاً، إذا كان عدد ما منقسماً بمتساويين، فالعدد الناتج هو عدد زوجي. وبالبرهان استدل ابن رشد على وجود الخالق. واليوم يمكن استخدام الكشوفات العلمية كأحد أنواع الحجج البرهانية. النوع الثاني هو الحجة الجدلية، التي تأتي بمقدمات مشهورة ومستساغة لدى العامة لكنها تخلو من دليل علمي، أو برهان عقلي، إلا أنها مقاربة لليقين لكثرة ما تُناقش، ويتم التجادل حولها، فتتحول في العقل الجمعي عند العامة إلى شيء يسهل الاقتناع به، كأن يُجمع الناس على عدم جواز إيذاء أي إنسان لأي يسبب، ولكن لو اعتدى أحدهم على عِرْض آخر لربما طالب بتعذيبه حتى الموت! إذن القضية هنا نسبية، أو «جدلية». النوع الثالث هو الحجة الخطابية، التي يعتمد صاحبها على مقدمات ظنية، تأخذ بالظن الراجح دون الحرص على إبراز الدليل والبرهان، بل يعتمد فيها على استخدام اللغة والبلاغة في إقناع المتلقي. أما النوع الأخير فهو الحجة العاطفية، وتسمَّى أحياناً «الشعرية» لكثرة استخدام الشعر فيها، لأنه يداعب المشاعر، ويستثير الهمم، وقد يقلب القبيح جميلاً، والحرام حلالاً في نفس السامع المتلقي، لشدة ما تتأثر به عواطفه. ويبدو أن العقل الإسلامي اليوم يرزح غالباً بين النوعين الثالث والرابع، أما الشباب في مجتمعاتنا فإنه يبحث ويتساءل، في حَيْرَة، في مكان ما بين النوع الأول والثاني. ولذلك، رغم محاولات بعض المشايخ محاورة الشباب المتسائلين إلا أنهم يصطدمون بأسئلتهم، التي يضطرون للإجابة عنها أحياناً بشيء من السذاجة؛ لأن كثيراً منهم لم يهتم يوماً بالقياس العقلي، بل إن كثيراً منهم حرّم الاشتغال به، واكتفى بالقياس، أو الدليل الفقهي، الذي يُعد تقديرياً تماماً كالعقلي. يقول ابن رشد: «إن القياس الفقهي وأنواعه استُنِبطَ بعد الصدر الأول. فلو كان القياس العقلي بدعة لأنه لم يكن في الصدر الأول لوجب أن يكون القياس الفقهي بدعة أيضاً لأنه هو الآخر لم يكن في الصدر الأول». إن من حرّم دراسة الفلسفة في مدارس المسلمين عليه أن يتحمل وِزْرَ العنف والتطرف والإرهاب والإلحاد أيضاً، فالفلسفة والمنطق، كانا كفيلين بتحقيق اتزان فكري في المجتمع. حتى العاطفة الدينية، التي نرزح اليوم تحت نتائج هيجانها في المنطقة، كان في الإمكان التحكم بها، وتوجيهها لفعل الخير لا لكره الغير لو أننا درسنا المنطق والبرهان. ولو فعلنا ذلك لفهم صديقي الملحد أنه ليس في حاجة إلى رؤية الله تعالى حتى يؤمن بوجوده، وأن مشكلته ليست مع الدين، بل مع كثير ممن يمثلونه. يقول فرانسيس بيكون: «إن قليلاً من الفلسفة يجنح بالعقل إلى الإلحاد، لكن التعمق فيها يعود بالمرء إلى الإيمان بالله».

مشاركة :