مهنة صناعة القوارب من الخشب التي ارتبطت بضفاف الأنهار منذ نشأتها الأولى قبل الآف السنين كوسيلة للنقل وصيد الأسماك تواجه اليوم خطر الاندثار، نتيجة ارتفاع أسعار الخشب وظهور منافس قوي لها في الأسواق وهو القوارب المصنوعة من المعادن وخصوصا تلك المصنوعة من مادة الفيبر جلاس بما تملكه من مواصفات جعلتها تسرق الأضواء من مثيلتها المصنوعة من الخشب. وصناعة القوارب من الخشب والمعروفة محليا باسم (البلام) حرفة تراثية عرفتها بغداد ومدن العراق منذ الآف السنين وتوارثتها الأجيال جيل بعد جيل وخصوصا في المناطق المجاورة لضفاف نهري دجلة والفرات اللذان يمران عبر الأراضي العراقية من الشمال إلى الجنوب ومنهما اشتق اسم بلاد الرافدين. وفي منطقة الكريمات التي تعد من أقدم مناطق بغداد، يفتح عباس عبد الكريم (42 عاما) والذي توارث مهنة صناعة وإصلاح القوارب من أبائه وأجداده ورشة صغيرة لإصلاح القوارب المصنوعة من الخشب والفيبر جلاس مع مجموعة من زملائه في المهنة. وقال عباس لوكالة أنباء ((شينخوا)) وقد ظهرت عليه علامات الأسف أن "صناعة القوارب من الخشب بدأت بالاندثار"، مضيفا "في هذا المكان بالذات كان أبي وقبله أجدادي يقومون بصناعة القوارب من الخشب، كما كانت تنتشر على جانبي نهر دجلة في بغداد العديد من ورش صناعة القوارب، ولكن هذه المهنة بدأت ومنذ سنوات تفقد سوقها وتتجه للاندثار". وتابع " منذ العام 1990 بدأت صناعة القوارب من الخشب تقل شيئا فشيئا وذلك لعدة أسباب يقف في مقدمتها ارتفاع أسعار الخشب وخصوصا، خشب الصاج الذي تصنع منه جوانب القارب، إضافة إلى أن الكثير من أهل هذه المهنة وخبرائها الكبار إما غادروا الحياة أو تركوا العمل بسبب تقدم العمر، وظهور منافس قوي هو القوارب المصنوعة من المعادن وخصوصا الفيبر جلاس. ويقف عبد الكريم على ضفة النهر وهو يشير إلى مجموعة من القوارب الراسية ويقول "اليوم من بين عشرات الزوارق الواقفة هنا تجد أن القوارب المصنوعة من الخشب لا تزيد عن اثنين أو ثلاثة، أما البقية فهي من الفيبر جلاس، وهذا يعود إلى أن هذه المادة رخيصة الثمن ومقاومة للمياه وخفيفة الوزن وهي سهلة في العمل والتنظيف". ويضيف عبد الكريم أنه في منطقة العطيفية التي لا تبعد كثيرا من هنا كانت ورشة عائلة الـ (رواك) لصناعة القوارب من الخشب تعد واحدة من أكبر الورش في بغداد ويعمل فيها العديد من أبناء العائلة ولكن مع ارتفاع أسعار الخشب وإيجار المبنى الذي تشغله الورشة، اضطرت العائلة لإغلاقها والانتقال إلى مدينة سامراء (120 كم) شمال بغداد للعمل هناك، لافتا إلى أن العاملين اليوم بمجال صناعة القوارب الخشبية يعدون على الأصابع. ويؤكد أبو بلال وهو صياد سمك في السبعينيات من العمر، ويمتلك قارب مصنوع من الخشب، أن عمر القارب الذي يعمل عليه هو أكثر من 25 سنة، وهو يقوم بصيانته وإصلاح أي خلل فيه، مبينا أن معظم الورش التي تصنع هذا النوع من القوارب قد اختفت تقريبا واتجه الكثير من أصحابها إلى تصنيع القوارب من مادة الفيبر جلاس. وأوضح أنه في السابق كان القارب يصنع من أنواع معينة من الخشب تتسم بمقاومتها العالية لملوحة المياه مثل خشب التوت والجاوي والصاج، حيث يصنع منها هيكل القارب وجوانبه والمقاعد والمجاديف التي تستخدم لتحريكه في النهر، أما اليوم فإن الخشب يستخدم في صناعة الأجزاء الداخلية من القارب مثل المقاعد والمساند أما بقية القارب فيصنع من الفيبر جلاس. ولفت أبو بلال إلى أنه يعمل بمجال صيد الأسماك وإصلاح القوارب الخشبية منذ أكثر من 50 عاما وقد عمل في الكثير من الورش التي كانت تصنع قوارب الخشب في بغداد. واعتبر أن الأمور أختلفت كثيرا عن السابق، حيث كان أكثر أصحاب القوارب يعملون في صيد السمك ونقل البضائع بين ضفتي النهر، أما اليوم فإن معظم القوارب تعمل في نقل الناس من جانب الكرخ غربي بغداد إلى الرصافة شرقيها وبالعكس وذلك بسبب الازدحامات الكبيرة التي تشهدها الشوارع والجسور، ما يضطر الناس لاستخدام النقل النهري لقضاء حاجاتهم. ارتفاع أسعار الخشب وأجور العمل كانت السبب الرئيسي في اندثار صناعة القوارب الخشبية بحسب أبو بلال، الذي قال لـ ((شينخوا)) وهو ينظف شباك الصيد" يبلغ سعر القارب المصنع من الخشب ما بين ثلاثة الى أربعة ملايين دينار عراقي في حين لا يتجاوز سعر القارب المصنوع من الفيبر جلاس 1.5 مليون دينار . ويوضح الحاج فاضل الكريماوي / 82 عاما/ أن صناعة القوارب تمر بعدة مراحل، تبدأ بجمع الخشب وأخذ القياسات المطلوبة لصنع القارب حسب رغبة الزبون وطبيعة الاستخدام، أذ أن هناك قوارب تستخدم للصيد وأخرى لنقل الأشخاص وأنواع أخرى تستخدم لنقل البضائع. وأضاف بعد ذلك يتم بناء الهيكل الرئيسي ووضع الأضلاع وهي قطع مقوسة من الخشب يثبت عليها الجزء الخارجي من القارب والذي يكون من خشب الصاج ومن ثم يتم طلي القارب من الداخل بالقير الأسود لسد المنافذ ومنع دخول المياه وصبغ القارب وإضافة المقاعد والمجاديف التي تم الاستغناء عنها في الوقت الحالي باستخدام المحركات. وارتبطت صناعة القوارب الخشبية بظهور الحضارات البشرية الأولى في العراق وحاجة الناس إلى التنقل، والصيد والزراعة لتدبر متطلبات حياتهم اليومية. وفي هذا السياق، قال الدكتور دحام السعدي، استاذ التاريخ في الجامعة العراقية في بغداد لـ ((شينخوا)) إن صناعة القوارب الخشبية في العراق على صلة وثيقة بوجود نهري دجلة والفرات، حيث أن القوارب تعتبر من الوسائل الأولى لتنقل سكان العراق، وذكرت في العديد من المصادر التاريخية للحضارات السومرية والأكدية والبابلية، لافتا إلى أن غزارة المياه في هذين النهرين جعلت القوارب وسائل لصيد الأسماك والطيور والتنقل بين ضفاف الأنهار ونقل البضائع. وأشار السعدي إلى أن هذه الحرفة التراثية التي ارتبطت بتاريخ العراق الموغل في القدم تواجه اليوم خطر الاندثار، على الرغم من أن بعض صناعها في بغداد ومدن وسط وجنوب العراق ما زالوا يحاولون المحافظة على هذه الصناعة التراثية، إلا أن أعدادهم تقل يوما بعد آخر، داعيا الجهات المختصة في مجال التراث إلى العمل على دعم أصحاب هذه الحرفة للمحافظة على جزء مهم من تاريخ وتراث العراق.
مشاركة :