سبق وقبل سنوات عدة كتبت عن جزيئة من تجربة الفنان التشكيلي الكردي العراقي حسين كاكائي (1959 - كركوك)، وأشرت حينها إلى أنه من الأسماء المهمة في المشهد التشكيلي الكردستاني/العراقي وبأنه من الفاعلين في تنشيط دورتها الدموية، وهو كذلك فعلاً، ومازال محافظاً على تلك الحيوية، ومسيرته الفنية التي تمتد لأربعة عقود وربما أكثر تتحدث عنه ولا تحتاج إلى من يكشف عنها، فبين معرضه الفردي الأول في قاعة كركوك للفن المعاصر عام 1982 ومعرضه الأخير في مارس/آذار 2022 في ماريكرلي - غينت ببلجيكا أربعون عاماً مليئاً بينابيعه التي تدفقت بالخصب والجمال والحب والحياة، مشكلة علاقته بالوجود وكأنها أسطورة تقضي مضجعه وما يبرّح بها الشوق والحنين، وترسم مفردات هذه العلاقة وهذا الوجود، بكل وفاء مهما حضرت الأضداد والتنابذ والجفاء، يبقى فيها من اللحظات ما تتشابك وتتقاطع ما يجعله يعود إليها كلما تطلبت حاجاته التي لا يمكن أن تختزل حتى لا تقصى أبعادها ولا تلغى طابعها الفني، وكأنها تلح عليه في حملها من صميمها حتى تكون مرجعيته فيما بعد، مرجعيته التي ستعلن الحقيقة التي يبحث عنها، فهو يشرع بنصوصه غير المدجنة، وغير القابلة للإحتواء التام لما تحمله من الطيب، أو لما تطارد من الفتنة حتى تبرز قيمها الجمالية والنفعية معاً، ومن منطلق الإيمان بأن مملكة الفن لا مكر فيها ولا شرور يجنح بخطابه نحو إنجاز ما يخدم قيمه تلك، إن كانت قيم الجماعة، أو قيمه الخاصة التي تحثه على الوعي باللون والخط وبأنهما مهما كان لهما من مزالق فهو القادر على إيقاظ الطيب منهما، ويذهب به في النفس البسيط المؤمن بالإنسان والحياة مروضاً أهواءها ورغائبها بالجزم أن رؤيته البيانية والتي يديرها ويدير تصوراتها وهي تندس في صميم خطابه معلناً أن المسألة هنا في غاية الدقة ولا بد أن تمثلها مفارقات تضمن إمكانية الشروع الفعلي في بنائها، وكذلك في بناء ما لم يفكر به، وما لم يدرك، فكاكائي يفطن أن ما يمارسه على نصه بوصفه فعل إشهاد، لا كنوع من إحتوائه، بل كإنخراط في مفاصله بما في ذلك زمنه الذي به يحيا، أو ما يسمى بزمن الخلق، زمن الإبداع والمكاشفة، وتبعاً لذلك، وبوصفه كائن إجتماعي قادر على الإدراك للإنتاج في حقوله فمن الطبيعي أن ينشغل بكيفيات بناء رموزه، وبكيفيات تشكلها ونهوضها، والحال أنه قادر على إبتناء ذلك حتى يضمن بقاءه، ومقدرته على الفعل بمشهده الذي سينتقل آلياً على الفعل بمتلقيه، وعلى هذا فهو يتحول إلى المواجهة لتوسيع دائرة المباح رغم وجود ثمة حرص لعدم نقل ما يجري، بل الإكتفاء بإرسال الإشارات عنه وترك إلتقاطها علينا، وهذا في حد ذاته ضوء لحالة، وهي في أبهى بقائها وحضورها، ضوء للحظة التقاطع الخفي بين الواقع واللاواقع، ضوء للحظة المكاشفة بإمتياز، ولذلك أيضاً جاءت تجربته وإلى حد الهوس بالدعوة إلى تبديل مفهوم العمل المنجز، ووظيفته وطرائق إنجازه، ويحاول جاهداً عدم التملص مما قد يعترضه، فله مقدرة هائلة على الإندساس في منجزه الجديد، ويملك من النهوض ما يجعل دعوته تلك مفهوم لمعالم ينشدها دون أن يعيها تماماً، لكنه على دراية تامة بمنجزه الفني بوصفه فعل تأصيل متمكن من إرسائه، وفيه تتنامى شعرية ألوانه، بلهيبها ومحاكاتها إلى جانب بنائه الشكلي مجسداً ذلك في تلك المكونات التي تسهم في إدراج تلك الشعرية ضمن دائرة الخلق والإبداع، ضمن عملية الإنشداد نحو إستكشافات وما تيسر منها في الحضور، بدقائقها وقوانينها الكبرى، وبكل ما يطال حركيتها وإن بدت بالمقارنة مع المنجز النظري أكثر إستقراءاً، وأكثر أثراً وإثراء في نفس المتلقي وهو يصوغها بالشكل الذي يراه، وبالشكل الذي يرغب. حسين كاكائي قدم العشرات من المعارض الفردية والجماعية على إمتداد الزمن، في مجمل المدن البلجيكية حيث يقيم منذ عام 1988، وفي كردستان والعراق وخارجهما،، فأربعون عاماً وهو يتساءل عن لحظة الإفتتان القصوى، عن الفعل بما خفي لا بما ظهر، حتى بات مدمناً على الفن ونزعاته، فكل الأدوية والعقاقير لن تكون مجدية في علاجه، مدمن وسعيد بإدمانه إلى حد العشق، حتى أنه قال مرة في إحدى لقاءاته القليلة "الفن عشق يستحق الكثير فبدونه لا يمكنني أن أتصور عيشي كيف سيكون .. ولغة الفن كالإبتسامة لا تحتاج إلى ترجمان"، ففنان يعيش بهذه النمطية العذبة، بهذه الشفافية التي بها يرصد مايزرع، وما لا يدركه كيف به أن يكون، فمهما كانت الأبعاد حاشدة في منجزه فهي وقوع على مكوناته ومقترحاته الجمالية، فكاكائي ينظر إلى المنجز بوصفه إسترداد غير واع لماء بئر كان قد جف منذ عقود، وبمعرفة دقيقة بمجمل ما يمكن أن يفكر به، وفي ضوء إلتقاطه لأسرار شعريتها وهي تشير إلى خباياها في لحظة الإفتتان تلك التي أشرنا إليها أعلاه، يلجأ إلى ذات البئر ليروي ظمأه، فهو على يقين بأن المرء لا يمكن أن يرتوي من مناهل الآخرين، وهذا ما يجعله يستدرج متلقيه إلى آباره هو، آبار في حالة من التدفق الدائم والزلال، في حالة لا يمكن أن تقوض إلا بما تفيض بها من دلالات تجنح بنا كمتلقين نحو تمييز معانيها المختلفة، في حالة تجعله غير عاجز عن بلوغ الذرى التي يحلم أن يرتادها كل فنان يتقن فن الإصغاء وإقتفاء أثره، وكاكائي بارع في ذلك وماهر، يتقدم نحوها حتى تتوالد الصور التي يديرها قاصداً الوصول، مستنهضاً متلقيه المفترض معه، لا كنوع من التفرد فحسب، بل كون تجربته تحمل مراجعها في ذاتها، وتحيلها إلى ذاتها، وهذا يعني أنها حين تتشكل تنتشل الموجودات من هول اللامعنى، وهذا لا ينفي وجود تلك الكآبة التي تلف نوحه وما يومىء به، وهذا طريق إلى دلالاته ورموزه التي يستلها من صميمه، فهو ليس بحاجة لمن يسنده من الخارج، ففي دواخله ما يفعل ذلك، وما يدفعه نحو تلك الذرى التي ينشدها. حسين كاكائي فنان تشكيلي وخطاط، مختص في فن الغرافيك، خريج أكاديمية الفنون الجميلة، فرع الغرافيك الحر، بلجيكا 2009، ولهذا كان من البداهة أن تكون رؤيته البيانية التي داخلت خطابه الفني متكتمة غاية التكتم لا كظاهرة بل ما يفرض عليه من غايات عظيمة بها يتصادى ويتعاطى مع الآخرين، مجنداً جهوده للعمل في ميدانه الخاص، دون أن تعصف بشاعريتها، يبقى فيها ما يوهم بأنها لم تضع، ولم تبدل من طرائق حضورها، بل تتشكل ومقاصدها وكأنها الحكاية ذاتها، الحكاية التي لا تفي لا بمتطلبات التحريض، ولا بإلتقاط ما تتجلى فيها من ضيم إيقاعات متعارفة عليها، بل للإبانة والحث وما تتطلبه من المكونات التي تلح على ضرورة الإعتناء بها، إن كان لمحاً أو إشارة أو إيماءة حتى تحقق علامات النهوض على المغايرة والإختلاف والتجديد، والحال أنها أشبه بسراج بيد راع يمضي به في ليل قاتم وطويل باحثاً عن طريق لا يتيه فيه، عن طريق توصله وقطيعه إلى ما يباح له، وما لا يفصله عن المخلوقات الحية الأخرى، ولا يئن أبداً حاضراً أو غائباً، فقضية إنتاج مفهوم جديد للعمل المبدع وللعملية الإبداعية هي شاغله وهي التي ترسخ رؤيته ورؤياه في كل ما يقطفه وما يثبته هو بنفسه، وما قدمه في معرضه المشترك الأخير، أو ما سماه بإحتفالية ثقافية التي نظمتها مؤسسة ميزوبوتاميا بدولة بلجيكا بالتعاون مع محافظة خينت يوم 05-03-2022 حين نسج سجادته أو ما سماها بسجادة كركوك بنحو ستين عمل خطي فيها قدم نخبة من آهاته وما يتجلى فيها من عبارات ملونة لمولانا جلال الدين الرومي (1207 - 1273) تحتاج كل منها لفهم خاص محاولاً بها مجابهة حقائق غائبة بآلياته التي ستزيد المساحات التي عليها يمارس نبضاته، وهذا بحد ذاته ستؤرخ له لسنين طويلة.
مشاركة :