< حينما نقرأ للكاتب حسين علي حسين فإننا نتذكر قلمه الذي يجيد فن كتابة السرد في القصة القصيرة، ولا أعني هنا أن قلم الكاتب اختصّ بالقصة فقط، لكننا عرفناه من خلالها كاتباً قصصياً يعالج كثيراً من القضايا والمواقف واللحظات الحياتية. ورواية «السويدي» الصادرة عن دار الجمل 2017، استطاع الكاتب - من خلالها - أن يوظف تلك التفاصيل الصغيرة، التي دارت في هذا الحي (أحد أحياء مدينة الرياض)، بحرفية سارد مطلع على مكان وجهته الكتابية، من خلال بطل الرواية (حامد بن بديع المناور)، الذي يعمل في المصلحة لمدة ثلاثين عاماً، حتى اليوم الذي أراد فيه أن يتقاعد من هذا العمل الذي حرمه من الالتفاف حول أسرته. فخيال الكاتب يختزل كثيراً من التفاصيل التي كوّنت تلك العلاقة بين بطل الرواية والمكان (السويدي)، هذا الحي المحدود الذي عاش فيه حامد بن بديع بين أحياء أخرى من أحياء مدينة الرياض كـ«الفوطة والحلة والقصمان». أمنيات كثيرة إنها تجربة حامد بن بديع في المرحلة المقبلة أي ما بعد مرحلة التقاعد، فمنذ الوهلة الأولى للرواية يطالعنا ذلك الملف الذي يمسكه ويدور به حول مكاتب المسؤولين ملف بلاستيك، به كل ثمراته التي جناها من هذه المصلحة طوال ثلاثين عاماً، كان فيها جزءاً لا يتجزأ من هذا المبنى، حيث كان يعيش على أمنيات كثيرة، لكن عمله في هذه المصلحة منعه من ذلك. مصلحة ذات مبنى شبيه بمبنى مكافحة المخدرات كما يشير الكاتب في روايته، قضى فيه طويلاً وهيمن على كل أحلامه وتطلعاته منذ أن وصل إلى حي السويدي، الذي اختاره لهم سائق الوانيت، حيث استبعد عليه وعلى أهله أن يكونوا في حلة العبيد أو الغرابي أو منفوحة قائلاً لهم: «إنها حلة ذات هواء عليل، حولها نخيل وأشجار.. وهي أيضاً سكن مجاني للمقطوعين والفقراء والباحثين عن الفرص». لقد بنى الكاتب روايته على تلك القصص التي تعتبر واقعية، من دون أن يجتر الرواية إلى منعطف القصة القصيرة، فاهتمامه بالتفاصيل الحياتية وقصص المرأة والحرية والأخيلة المتراكمة في ذاكرة الكاتب دليل على نضج الرواية وانفتاحها على الفنية الساحرية إن صح التعبير، إذ تطرقت الرواية إلى العديد من الحوادث التي حصلت في السويدي، ولا أدل من ذلك سوى حادثة البرميل المنفجر الذي عمّ صداه زوايا الحي كافة. هذه الحادثة تمثل عوالم من الفساد استطاع الكاتب أن يوظفها في الرواية، كما وظف حادثة المرأة ودخولها إلى مكاتب المبنى بلا قرار منع اتجاهها. وإشارة الكاتب إلى حادثة سياسية شغلت العالم كثيراً، حيث تطرق لها في روايته، تمثلت في الصواريخ التي كان يطلقها صدام حسين على تلك الأحياء المحيطة بمدينة الرياض، إبان حرب الخليج الثانية. ولا يمكن أن يتغافل القارئ عن رصد سلطة الزوجة عليه، التي طالبته بأن يبقي والدته بعيدة عنه حيث موقعها عند الباب الخارجي بأمر من زوجته التي بررت ذلك بثرثرتها. وانتقام الأم منها، إذ طالبت ولدها حامد بالزواج عليها وكسر شوكتها. عالم منغلق إنها رواية تتمازج تفاصيلها في عالم منغلق، تتمخض منه بعض الصراعات الفردية وتجارب إنسانية كثيرة تحدد مصير الضياع وتنشد حريتها كحاجة ضرورية لكسر الروتين وفك الحصار الوظيفي عنها، وأعني بذلك ما كان يعانيه بطل الرواية حامد بن بديع. فالحياة التي عاشها هو وأفراد أسرته كانت قاسية وعاجزة في كثير من تفاصيلها. والسويدي هذا الحي المنغلق على ذاته بين أحياء الرياض القديمة تنسلخ منه شخصيات الرواية، حتى ليبدو لقارئها أنها مجتمع صغير يحمل كل منها أحلاماً صغيرة.. شخصيات تكاد تكون متقاربة في تفكيرها وأمنياتها، اختار منها الكاتب بطلاً هو حامد بن بديع، الذي كان تفكيره منصباً حول المرحلة القادمة بعد تقاعده من عمله في تلك المصلحة، عبر مونولوج داخلي يعبر فيه عن ذاكرته المتنوعة ورصد كل تفاصيلها كما نلاحظ هنا: «كان حامد بن بديع المناور غارقاً في ذكرياته عن حي السويدي، بكل ما فيه من الرجال والنساء والمحال والحكايات، الأفراح والأتراح، الجرائم والمآسي صغيرها وكبيرها، كل ذلك طار من ذاكرته حالما غادر السويدي، لكنه لن ينسى مواقف محدودة كلما جاء ذكر السويدي طفت كالسيل». فالتفاصيل اليومية التي ذكرها الكاتب هي تفاصيل دراماتيكية، تنبئ عن موروث طويل من شأنه أن يقدم قيمة فنية للعمل الروائي، وهذا ما سعى إليه الكاتب الكبير حسين علي حسين، حيث رواية المكان التي ترصد للفعل الاجتماعي لكثير من الشخصيات، بناء على تفاصيل زاخرة شكلت بنية الرواية ومادتها الممزوجة بتحديات الحياة. * كاتب سعودي.
مشاركة :