عادة ما يلجأ النّص السّردي إلى مراوغة الحقائق، والعزف على خلفياتها؛ من أجل إخفاء أيديولوجيته، فالرّوائي والقاص "محظور عليه إيديولوجيا أن يقول أشياء معينة، وحين يحاول المؤلف أن يقول الحقيقة فإنه على سبيل المثال قد يجد نفسه مضطرا إلى الكشف عن حدود الإيديولوجيا التي يكتب داخل نطاقها، إنه مضطر إلى الكشف عن ثغراتها وفجوات صمتها عما يستطيع الإفصاح عنه" (انجيلتون، صفحة 07). غير أنّ هذه الاعترافات التي يتمّ البوح بها، وإن كانت مسسترة، من طرف الكاتب نوع من أنواع الشّجاعة والحريّة، كما يُحيل القارئ إلى صدق طرحه، وبالتّالي صدق الذّات مع الآخر، هذا الذي يُعطي النّص الأدبي قيمة مُضافة إلى القيمة الجماليّة التي يحملها. وِشاية العنوان: يؤسس العنوان باعتباره عتبة نصيّة هامة من بين عتبات النّص السّردي الكثيرة غِواية لقارئها، وكون عنوان "هوية كاتب" يسم أحد نصوص المجموعة، فإنّ الكاتب سعيد فتاحين يحيلنا مباشرة إلى فحوى مجموعته القصصيّة، والتي تطال الهويّة وانزلاقاتها في الوطن العربي، وهكذا يبدو العنوان الذي هو في حدّ ذاته وشاية بنصوص المجموعة القصصيّة، حاملا طاقة تحفيزيّة تتصيّد المتلقي، جاذبا اهتمامه وتفاعله مع النّص المطروح وقضيته. سؤالات الهويّة: تأخذ المجموعة القصصيّة "هوية كاتب" لكاتبها سعيد فتاحين القارئ إلى دهاليز سريالية، ممّا تجعله يتيه بين شعابها السّرديّة المُعلَنة والخفِيّة، فتُراهنه على جماليتها وفنيتها، باعتبار نضج هذا المبنى السّردي، وتحري الكاتب اللّقطة المحكمة الصّنع. وقد جاء في قصته "العربي الأخير" سرده الآتي: "كانت المدينة تعج بالخفافيش بدل العصافير، عدت إلى ذاتي المندهشة من هول ما رأيت، هذا ما جعلني أسارع لارتداء معطف جلدي أسود وقناع وجدته على المائدةخوفاً من بلاء تلك الخفافيش، وربما لعناتها!" (فتاحين)، معلنا من خلال هذه القطعة السّرديّة شتات هوية الكاتب، وجنوحه إلى الوحدة، فقوله: "عدتُ إلى ذاتي المُندهشة" تُحيلنا إلى مدى الضّياع والقلق الذي يعيشه العربي، أو العربي الأخير كما يُسميه، فهو شاهد على اخفاقات أمته وانكساراتها المتتالية، وهو ما يفسر ارتباكه الدّاخلي. ويترجم هذا الارتباك في قوله "لقد كنت الخائف الوحيد من ذلك المشهد المتأزم الذي لن يستطيع أحد معايشته، رغم محاولته الحثيثة لأن يراقب وينتبه لصخب المدينة ذاك، لقد "أحسست أنني العربي الأخير" وقتها، بقيت مذهولا من شدة الحيرة والفزع، حتى الأشجار تزينت ليلتها، كانت الوجوه العربية المزيفة تتقاسم أقنعة مختلفة لأبطال خارقين وسط ساحة الكتدرائية، كما كان هناك بعض الهياكل العظمية تقف بعيداً عن الساحة وتُصفِّقُ وتدخِّنُ السجائر، لم تكن تلك الهياكل مزيفة أبدا ووجودها لن يثير أي فزع!" (فتاحين)، وسط هذا الجدل الهوياتي يعبّر الكاتب عن الرّؤية الكابوسيّة التي التقطها ولا يزال يلتقطها العالم في صور متجددة، ما يخلّف حطاما نفسيا تزيد حمولته يوما بعد يوم، ويكدّس انشقاقات الهويّة. تجتمع قصص الكاتب سعيد فتاحين عند مصير الإنسان، والصّراعات التي يعيشها، بدءا من الصّراع الدّاخلي/تغييب الأنا وهو أصل المشكلة، ففي معرض سرده لقصة "سقوط حر" يقول: "لم تتكفَّل الدولة بحالته، هذا ما جعله يستبدل اسمه" (فتاحين)، إنّ هذا التّغييب للأنا في العالم العربي وسّع الهوّة بينه وبين الآخر، باعتبار أنّ الشّعور بالأنا يُفضي إلى الشعور بالحريّة وليس العكس. أزمة اغتراب أم أزمة وجود: تتحاور نصوص "هوية كاتب" مع مختلف المرجعيات المُحيطة بهذا النّص، غير أنّ الحوار المهيمن عليها هو حوار الذّات، والمُلاحظ على صوره أنّها مستقلة بذاتها عن العالم الخارجي، ومنه ما نرصد من رفض لهذا الواقع ومحاولة لتجاوزه وتخطيه، نتيجة لخيبة الكاتب والذي لا يرَ من الحياة سوى التّفاهة والعدم، ممّا أكسب نصه معاني سريالية منفكّة عن العالم الواقعي، مندمجة مع العالم الميتافيزيقي، بلمسة جمالية تمنح المعنى أبعادا دلاليّة جديدة. وصفوة القول أنّ "هويّة كاتب" نافذة على القلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان العربي بصفة عامة، والجزائري بصفة خاصة، ومحاولة في الكتابة عن المسكوت عنه، والمُتسترِ عن جميع الخيبات التي ترسم ملامح وجودنا.
مشاركة :