في الأسبوع الذي أعقب الحرب الروسية على أوكرانيا، كتبت «آن أبلباوم»، في مجلة «ذا أتلانتيك»، أن «التاريخ يتسارع»، وأن «ما كان مستحيلا أصبح ممكنًا». ووصف «جيمس شوتر» في صحيفة «الفاينانشيال تايمز»، الغزو، بأنه «أكبر هجوم عسكري في أوروبا منذ أكثر من نصف قرن»، وأنه «ترك بالفعل علامة لا يمكن إنكارها على مستقبل السياسة الدفاعية الأوروبية، ومواقف أعضاء دول التحالف الغربي تجاه موسكو». ومع تسارع وتيرة الأحداث، نقل «الناتو»، قواته إلى البلدان المجاورة لروسيا كوسيلة للردع، وزودت الدول الأوروبية أوكرانيا بالمساعدات العسكرية للدفاع عن نفسها، وحدث تحول في الموقف الدفاعي لكل من الاتحاد الأوروبي، وألمانيا، مع احتمالات قوية بتوسع هيكل التحالف الأمني الغربي ليشمل كلاً من السويد وفنلندا. وبينما اعتقد الرئيس الروسي «بوتين»، أن الغزو قد يؤدي إلى حدوث انقسام غربي، بدلا من ذلك، وجدت موسكو نفسها معزولة دوليًا، وحدودها الغربية محاطة من قبل الناتو أو دوله الحليفة. ووفقا لـ«إريك تيجلر»، في مجلة «فوربس»، فإن حلف الناتو، لم يقم «بأي معارضة مباشرة للغزو الروسي»، إلا أنه بدأ في تحريك قوات أكبر بالقرب من حدوده الشرقية مع روسيا». وبتفصيل أكثر، أوضح «ستيفن إرلانجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه «تم نقل ما يصل إلى 22000 جندي إلى دول مجاورة لروسيا، وبيلاروسيا منذ بدء الغزو، ونشرت الولايات المتحدة وحدها 15000 جندي إضافي في بولندا ورومانيا ودول البلطيق، بينما بدأت فرنسا في نشر قوات في رومانيا، وتزويد بولندا ببعض طائراتها المقاتلة من طراز رافال، وأرسلت ألمانيا طائرات مقاتلة إلى رومانيا وقوات إلى ليتوانيا، كما نقلت بريطانيا مئات الجنود ودبابات تشالنجر إلى إستونيا وبولندا؛ لتدعيم دفاعات الحلف في المنطقة. وعلى الرغم من أنها تحركات متواضعة -مقارنة بما يقوم به الجيش الروسي في أوكرانيا- إلا أنها «تعطي مؤشرًا» على «الجدية التي يتعامل بها الناتو مع مخاطر العدوان الروسي، أو امتداد الحرب إلى أراضي الحلف». وفي حين أن الدول الغربية، قد قدمت الدعم السياسي والمساعدات العسكرية، فإن احتمالية المشاركة العسكرية المباشرة، لا تزال «بعيدة»، ما لم يمتد العدوان إلى دول الحلف نفسها». وفي الواقع، فإن الاقتراحات التي تطالب الغرب بفرض «منطقة حظر جوي» في أوكرانيا، «فاشلة سياسيا»؛ لأن أي إجراء لمنع الطائرات الروسية من التحرك في أوكرانيا، سيكون وفقًا للجنرال السابق في سلاح الجو الأمريكي، «فيليب بريدلوف»، بمثابة «إعلان حرب» ضد الكرملين. ولمساعدة الأوكرانيين في المعركة، بدأ «الناتو»، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، «برنامجًا ضخمًا»، لتزويد «كييف»، بالمساعدات العسكرية. وأشار «إرلانجر»، إلى أن «حوالي 20 دولة -معظم أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي- تنقل الأسلحة الآن إلى كييف لمحاربة الغزاة الروس». وفي إشارة إلى قرار «الاتحاد الأوروبي»، بتقديم دعم عسكري بقيمة 500 مليون يورو لأوكرانيا؛ رأى «إد أرنولد» من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أن السياسة الخارجية لبروكسل، «قفزت للتو عقدا من الزمان إلى الأمام». وبالمثل، قالت «كريستي رايك»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، إنه «بين عشية وضحاها، أصبحت أوروبا لاعبًا رئيسيًا في مواجهة التهديد الروسي»، وأوصت بالمساهمة في المستقبل بشكل أكبر في تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية»، ومع ذلك، حذرت من أن عمليات نقل الأسلحة وحدها لن تكون كافية لترجيح كفة أوكرانيا في الحرب. في حين أوضح «إرلانجر»، أن «السرعة عامل أساسي» في عملية نقل الأسلحة في ظل محاولات روسيا قطع إمدادات الجيش الأوكراني في شرق البلاد. وبصرف النظر عن الإجراءات التي اتخذها «الناتو»، و«الاتحاد الأوروبي»؛ فإن هناك «تغييرا واضحا» في المواقف الأوروبية، فيما يتعلق بالمخاطر الأمنية التي تشكلها روسيا عليهم، مع ظهور إجماع على أنه في حال سقوط أوكرانيا، قد تتعرض الدول الأخرى المتاخمة لموسكو للهجوم بعد ذلك. وكتبت «آبلباوم»، أن «شعوب أوروبا، تدرك أنهم يعيشون في قارة لم تعد الحرب فيها مستحيلة»، وأوضح «رايك»، أن غزو موسكو بمثابة، «مرحلة نضج مؤلمة»، لسياسة الأمن والدفاع في أوروبا. وفي ضوء هذه الديناميكيات، أوضح «أرنولد»، أن «الاتحاد الأوروبي»، و«الناتو»، الآن «لديهما فرصة قصيرة» لتأسيس «استراتيجية دائمة لأمن أوروبا»، مشيرًا إلى أن التغييرات التي طرأت على الموقف الدفاعي الأوروبي في أعقاب الغزو الروسي مباشرة، كانت «صادمة»، وتتخطى تطور المشهد السياسي عقدًا أو حتى جيلاً بأكمله من الثوابت السياسية داخل القارة في أسبوع واحد. وفي 3 مارس 2022. صرح الرئيس الفرنسي، «إيمانويل ماكرون»، أن أوروبا لم يعد بإمكانها «الاعتماد على الآخرين للزود عنا»، وأنه يجب أن يتخذ دفاعنا الأوروبي خطوة جديدة إلى الأمام». وتحمل التأثيرات طويلة المدى على الوضع الأمني الأوروبي، تغيرات واضحة في سياسات دول الناتو. وفي إطار السياسة الدفاعية الأوروبية، كشف المستشار الألماني، «أولاف شولتز»، عن خطط لزيادة الإنفاق الدفاعي لبرلين، كخطوة من شأنها «تغيير التوازن العسكري الأوروبي بشكل كبير»، وعكس «عقودا من السياسة الوطنية المتسقة». ووصف «باستيان جيجريتش»، و«بن شرير»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، كيف أن الغزو، «قد أيقظ ألمانيا من سبات استراتيجي دام 30 عامًا». وفيما يعتبر نقطة تحول في استراتيجية الدفاع الألمانية، كشف «شولتز» عن صندوق بقيمة 100 مليار يورو لتجهيز ما وصفه «جيجريتش»، و«شرير»، بــ«جيش ألماني، قادر، وحديث، ومتقدم»، معلنا أن بلاده ستلتزم تمامًا بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني للإنفاق الدفاعي المتفق عليه مسبقًا من قبل أعضاء الناتو. ونظرًا إلى أن الاقتصاد الألماني، هو الأكبر في أوروبا، فلا ينبغي التقليل من أهمية التداعيات الأمنية طويلة المدى لهذا الأمر، حيث إن إنفاق هذه النسبة على الدفاع، سيعادل 75 مليار يورو سنويًا، وبالتالي جعل ألمانيا «ثالث أكبر منفق على الدفاع في العالم»، بعد الولايات المتحدة والصين. وحظيت استراتيجية «شولتز» الأمنية، بدعم سياسي وشعبي كبير داخل ألمانيا. ولم يكن قراره مدعومًا فقط من قبل حزبه «الاشتراكي الديمقراطي»، ولكن أيضًا من قبل «الحزب الديمقراطي المسيحي» المُعارض، وشركاء الائتلاف الحكومي؛ والحزب الديمقراطي الحر، وحزب الخضر، وذلك بنسبة 78%، وهو ما وصفته «أبلباوم»، بأنه «تطور مذهل»، مشيرة إلى هذا التحول في برلين على أنه «تغيير جوهري في تعريف ألمانيا لنفسها»، كشريك أمني للتحالف الغربي. ومع ذلك، حذر «جيجريش»، و«شرير»، من أن «المزيد من الأموال لا تُترجم تلقائيًا إلى المزيد من القدرات»، وأنه سيكون من الأفضل للجيش الألماني، «البوندسفير»، أن «يرتكز كقوة قارية في قلب أوروبا، مع التركيز على الدفاع عن الجناحين الشرقي والشمالي لحلف الناتو». وتثير الزيادة في الإنفاق الدفاعي الألماني إلى جانب التهديد المباشر لأمن القارة، تساؤلات حول الآفاق طويلة المدى لامتلاك الاتحاد الأوروبي لجيشه الدائم، المنفصل عن «الناتو». وعلى الرغم من أن الفكرة لا تزال في مهدها، ومن غير المرجح أن يتم تنفيذها لمعالجة الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنه مع إعادة التقويم الاستراتيجي للأمن الأوروبي، قد يكتسب هذا الاقتراح «قوة دفع». وفي إشارة إلى المعارضة الأمريكية طويلة الأمد لهذه الفكرة، أكد «كيفن ويليامسون»، في مجلة «ناشيونال ريفيو»، أن «دفع الاتحاد الأوروبي لبذل المزيد من الجهد للدفاع عن القارة بنفسه، «ولكن وفقًا لشروط واشنطن فقط»؛ هو موقف سياسي «محكوم عليه بالفشل»، ولكي «تُعفى الولايات المتحدة من بعض أعباء القيادة الدولية»، يجب «التخلي عن بعض امتيازاتها أيضًا». ونظرًا إلى عدم وجود قوة عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي الآن؛ فقد أكد «رالوكا سيرناتوني»، من «مؤسسة كارنيجي»، أن هذه الأزمة «تشير إلى إعادة الالتفاف حول الناتو، باعتباره تحالفًا عسكريًا رئيسيًا مسؤولا عن نظام الدفاع الجماعي بأوروبا». وفتح الغزو الروسي وتداعياته الباب أمام هذا التحالف ليصبح أقوى، وليس أضعف، كما اعتقد بوتين. وبدا ذلك في سعي أوكرانيا للحصول على عضوية الحلف، وتوقيع الرئيس «زيلينسكي»، على طلب رسمي لكي ينضم إلى الاتحاد. وفي السياق ذاته، استشهد «أرنولد»، بكيفية إنهاء «السويد»، و«فنلندا»، حيادهما بشأن ا لتبعية للشرق أو للغرب الأوروبي عبر تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، كما أن «سويسرا»، و«أيرلندا»، أيضًا «غيرا حيادهما» عبر تنفيذ عقوبات اقتصادية ضد الروس. والتزمت «السويد»، بإرسال 5000 صاروخ مضاد للدبابات و135.000 وجبة جاهزة، و52 مليون دولار لكييف لمساعدتها في الدفاع عن نفسها. فيما وصف «زيبولون كارلاندر»، من «منظمة المجتمع والدفاع»، هذه الخطوات، بأنها «مجرد بداية لإعادة تقييم السياسة الأمنية السويدية». وأوضح «أرنولد»، أن «السويد»، و«فنلندا»، «أقرب بكثير للانضمام إلى الناتو»، ويبدو أن استطلاعات الرأي في هذه البلدان تدعم الفكرة. وذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أن 53% من الفنلنديين يؤيدون الانضمام إلى التحالف. وعلى الرغم من تسجيل رقم أقل بنسبة 41% في السويد، فإن هذه هي المرة الأولى التي يؤيدون فيها ذلك مع تجاوز نسبة معارضي الفكرة (35%). وفيما يتعلق بالتغيير الواضح تجاه الحفاظ على الحياد، علق رئيس الوزراء السويدي السابق، «كارل بيلت»، أنه بالنسبة إلى هاتين الدولتين، فقد «يصبح ما لا يمكن تصوره قابلاً للتفكير». ومع ذلك، لا يمكن استبعاد مخاطر التصعيد من الانضمام إلى الناتو، بالإضافة إلى احتمالات زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي. ونظرًا إلى أن غزو أوكرانيا، كان يهدف إلى «نزع سلاحها»، ومنع عضويتها المستقبلية في الناتو؛ فإن احتمال قيام دول أوروبية محايدة أخرى بذلك، قد يؤدي إلى مزيد من العدوان الروسي. ومنذ غزوها، أصبحت موسكو معزولة جيوسياسيا بشكل متزايد. وأشار «أرنولد»، إلى أن إحكامها السيطرة الفعالة على بيلاروسيا، ما هو إلا «إحدى المزايا الاستراتيجية الحقيقية الوحيدة». في حين أشار «إرلانجر»، إلى إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، باعتباره «مخاطرة بتشجيع اندلاع حرب أوسع وانتقام محتمل من بوتين»؛ نظرًا إلى أن ذلك يهدف في النهاية إلى «قتل الجنود الروس». ورغم مخاطر الانتقام الروسي، فإن موسكو أساءت تقدير مستوى المعارضة الجيوسياسية التي تواجهها جراء عملياتها العسكرية ضد الأوكرانيين. وأشار «أرنولد»، إلى «فشل» استراتيجية روسيا في خلق انقسام غربي، مضيفا أنه يجب «استغلال» هذا «لبناء أوروبا أكثر أمنًا وازدهارًا». وبالمثل، أوضحت «آبلباوم»، أن موسكو فشلت في إقناع شعبها بصدق توجهاتها، حيث إن «العديد من الروس لا يدركون ما يحدث في أوكرانيا في بادئ الأمر،» نظرًا إلى تصوير وسائل الإعلام الغزو، على أنه «عملية أمنية في المقاطعات الأوكرانية الشرقية»، لكن النفوذ المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي، أوضح لملايين الروس، أن بوتين غزا جارًا، لا يعتبرونه عدوًا». على العموم، أثار الغزو الروسي لأوكرانيا العديد من التداعيات العالمية. وكانت العقوبات الدولية ضد موسكو ومنع رياضييها من المنافسات الدولية رد فعل عنيف تجاهها. وعلى المدى الطويل، فإن أهم الانعكاسات الجيوسياسية، تتركز في تعزيز المجال الأمني الأوروبي. وفي حين أن الدول الأوروبية قد اتحدت بالفعل خلف «الناتو»، وترسل مساعدات عسكرية لكييف، فإن صدمة الغزو، قد أحدثت مجموعة من التحولات السياسية، أبرزها الإجراءات التي اعتمدتها ألمانيا. وبالنسبة إلى التعاون الأمني الأوروبي، كما أوضح «أرنولد»، فإن «لحظة التعاون الراهنة تبدو مختلفة نوعًا وكمًا»، كما أن احتمالية تعزيز قوة حلف الناتو، تمثل بُعدًا جديدًا في الأمن الأوروبي.
مشاركة :