مراجعة السيرة الذاتية لجبرا إبراهيم جبرا

  • 3/12/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كتاب شارع الأميرات لجبرا إبراهيم جبرا يمثل السيرة الذاتية الثانية للمؤلف، حيث ابتدأها من رحلة سفره إلى إنجلترا للدراسة الجامعية، ومن هناك بدأت قصته المختلفة مع حياة الاغتراب، فقد تنبأ بحذاقته وصفاء ذهنه منذ مطلع شبابه بحكاية حياة تشابه حكاية أي فرد فلسطينيّ تجرّع ألم الاحتلال والتشرّد والضياع، فرأى أن يتخذ من الغربة سفرًا سرمديًا للمجهول الذي يكتشف فيه ما يلهمه ويشوّقه للإبداع، يقول: «وكان ذلك أول خروج لي من الوطن مغامرًا بنفسي في اتجاه المجاهيل التي رحت أكتشف فيها علاقتي الأوسع بالعالم». واتخذ كذلك من المعرفة ما يعوّض به آلام النفي والإحساس بالغربة، «في سبيل المعرفة، المعرفة المطلقة، كوسيلة لتخطّي آلام الغربة، والنفي...» وهو في حديثه عن حالة الاغتراب ومأساتها صوّر لنا وجهًا آخرًا للحرب، وتأثيرها الذهنيّ والنفسي في الإنسان، ودنو الكارثة يزيد من حدة الذهن واعتلاج العاطفة، ويضاعف من التعلق بالحياة وأحاسيسها»، فالكاتب ظل طيلة حياته باحثًا عن الجمال حتى في أحلك الظروف، فالسفر لم يكن لديه نوع من الترف، وإنما هي محطة جديدة للإبحار في الداخل من خلال الخارج، إنه وهو يتنقل بين مدن إنجلترا يستعيد ما اختزنت به ذاكرته الأدبية من شعراء وروائيين إنجليزيين مرَّوا من هنا، «حتى ازدحمت في ذهني أخيلة ومشاعر وذكريات، بعضها يعود إلى أيام طفولتي. والبعض الآخر يعود إلى قراءاتي الشعرية لوردزويرث». والكاتب في أثناء وصفه للمشاهد والمواقف التي مر بها في غربته يعبر عن شوقه الدائم للوطن «ففلسطين لم تكن تغيب عن بالي لحظة واحدة». وبالنسبة لروائي امتازت حياته بعديد من المحطات والعلاقات التي أضافتْ على فكره وأدبه، فإن فلسطين لم تكن رمزًا يستلهمه في أدبه وفنه فحسب، وإنما كانت قضيته التي ما فتئ ينافح عنها، يقول: «نذيع في الليالي من إذاعة بغداد أحاديث منتظمة باللغة الإنجليزية عن هذه المآسي بالذات، ونستصرخ ضمير العالم». وفي هذه السيرة الذاتية جسَّد لنا الكاتب تصويرًا عميقًا لسير الحياة الثقافية في بغداد، فقد أصبحت بغداد مستقرًّا لأغلب سنيّ حياته، يقول: «وإلى هذا كله، أي فوران ثقافي كان يتصاعد في المدينة يومئذ! فوران تختلط فيه الأوراق، وتتخذ فيه الحماسات مسارات سياسية واجتماعية مثيرة ودائبة الحركة وجدتُ نفسي في خضمّها». ومما عمّق من تجربة الكاتب هي علاقاته الأدبية والثقافية بكبار الأدباء والفنانين في بغداد، كما خصّص فصلاً كاملاً لحديثه عن علاقته بالروائية العالمية أجاثا كريستي. وكأي سيرة حياة، لا تخلو من سرد مطوّلٍ عن الحب؛ أحزانه وأفراحه، «ولكنني كتبت كثيرًا، ورسمت كثيرًا، وقرأت كثيرًا، في ذلك الجو العارم بحركته، ولميعة تملأه لي وهجًا وحيوية». وما يميز هذه الشخصية الروائية هو ميولها للفن التشكيلي، الذي اتضحت بوادره منذ طفولته في علاقته بالمشاهد الطبيعية والألوان، كما أن له إسهامات عديدة في هذا المجال وأبرزها تأسيسه لجمعية بغداد للفن الحديث. ولكن، ما الكتابة بالنسبة لجبرا؟ إن الكتابة هي البحث عن وطن مفقود؛ هي فلسطين، «ولكنني رفضت، وأصررت على العودة إلى القدس لأنني أريد أن أكتب». إن الكتابة هي كل ما مرّ عليه من تجارب، لقد اختار جبرا لسيرته اسم الحي الذي كان يحب أن يمارس رياضة المشي فيه، ولطالما انبثقتْ أفكار رواياته وهو ماشيًا متأمّلاً وهائمًا في جماله، « وكم كيلومترًا في كم طلعة وطلعة مشيت في شارع الأميرات لأكتب ما كتبت؟».

مشاركة :