ستغير حرب أوكرانيا العالم كما فعلت كل الحروب الكبرى في التاريخ، القديم منه والحديث، هي ليست حرباً بين بلدين جارين مختلفين على انضمام أحدهما الى حلف معاد للآخر، هي حرب بين عالمين ضاق فضاء كل منهما على فائض قوته وغطرسته ونزعاته السلطوية السيطروية. صنعت الحروب القديمة عالمها، بحدوده واقتصاده وعمرانه وثقافته.. وحتى آلهته. تغير الزمن وتغيرت الشعوب، لكن ما تغيرت الحروب في مقاصدها الكبرى ومآلاتها. من حروب الرومان للسيطرة على العالم القديم، الى حروب الإغريق والفرس وما بينهما من حروب شعوب الشرق، الى حروب المسيحيين الأوروبيين والمسلمين العرب والأتراك وحروب آسيا ومغولها... الى حروب نابوليون وحربي العالم الأولى والثانية، كان هناك دائماً خط كبير فاصل بين زمنين وعالمين. قبل الحروب ليس ما بعدها، ليس في النتائج العسكرية والتغيرات الميدانية وأعداد الضحايا والدمار والخراب فحسب، بل في عمق النفس الإنسانية والفكر الإنساني وتياراته، وثقافات الشعوب التي أدمتها الحروب، وتلك التي تأثرت بها ولو من بعد. حرب أوكرانيا هي حرب الرأسماليين في ما بينهم، حرب الأغنياء المنتجين التجار على من يقود العالم وتجارته وطرقها، ونفطه وغازه وأنابيبهما ومضائق عبور بواخرهما. من حظ أوكرانيا العاثر أنها وقعت بين عالمين يصطرعان وانحازت الى أحدهما. أدت الحرب العالمية الأولى الى غياب إمبراطوريات ونشوء دول وتغيير هائل في خريطة أوروبا والشرق الأوسط، والى تقدم الولايات المتحدة لقيادة ما سُمّي لاحقاً بالعالم الغربي الرأسمالي بدل فرنسا وبريطانيا المرهقتين. لكن أيضاً تقدم روسيا التي أصبحت شيوعية في عام 1917 الى قيادة جزء آخر من العالم الذي أصبح شيوعياً، بعدما استقطبت الى محورها دولاً مجاورة في أوروبا وآسيا تحت راية دولة عظمى هي الاتحاد السوفياتي. وبين هذين العالمين صعد التيار الذي سيتسبب بدمار أوروبا بعد قليل. أذلّ المنتصرون في الحرب العالمية الأولى ألمانيا وكبلوها بالعقوبات، وفي ذروة تفاعلات ما بعد الحرب الفكرية والاقتصادية والسياسية، صعد اليمين المتطرف في أوروبا عموماً، ووصل الى الحكم في إيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر. حفّزت العقيدة النازية العنصرية الألمان ودفعتهم الى الانتقام، لكن أيضاً الى البحث عن المدى الحيوي لما اعتبروه عظمتهم التي لا حدود لها، وفي لحظة قد تكون اختلطت فيها الأحلام بالأوهام والجبروت بالثقة الزائدة بالنفس، قرر الزعيم النازي ادولف هتلر السيطرة على العالم، واندفعت دباباته الى الحدود البولندية أولاً، وكانت الحرب التي دمرت أوروبا وبعض العالم. كما الحرب الأولى، غيّرت الحرب الثانية دولاً وأزالت حدوداً وقسّمت العالم أيديولوجياً الى معسكرين، رأسمالي بزعامة أميركا التي كرّست نهائياً زعامتها للغرب، وشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي الذي أصبح في قلب برلين مشيّداً جدارها الفاصل عن الغرب، رمزاً لهذا الانقسام الذي سيسقط بسقوط الجدار عام 1989، وعسكريا الى حلفين، شمال الاطلسي الغربي ووارسو الشرقي. لكن الحرب أطلقت موجة فكرية في ظل الحرب الباردة بين الحلفين معادية للعنف والقتل والغزو، كان لها الأثر البالغ في تحريك الرأي العام الأميركي والعالمي ضد حرب فيتنام وغيرها من الحروب الإقليمية. كما تُرجمت بمناخ الحريات والسلام الواسع الذي انطلق من أوروبا الى العالم، مع الفلسفة والأدب والموسيقى والفنون. صحيح أن مآسي الحروب لا تمنع تكرارها، لكنها تخلق رأياً عاماً معادياً لها لفترة قد تطول أو تقصر. حرب أوكرانيا ستعلّم العالم الكثير، فالحرب أيضاً دروس وعبر. مع انهيار المنظومة الشيوعية في العالم، وتفكك قاطرتها الاتحاد السوفياتي، وضع فرنسيس فوكاياما نظرية نهاية التاريخ، معتبراً أن الصراع بين الرأسمالية والشيوعية انتهى لمصلحة الرأسمالية المنتصرة انتصاراً نهائياً، وبقيت هذه النظرية سائدة ردحاً من الزمن جنباً الى جنب مع نظرية صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون، فهل تضع حرب أوكرانيا بين أبناء الحضارة الواحدة والدين الواحد نهاية للنظريتين اللتين لا تنقصهما الخلفية العنصرية؟ قد لا تغيّر الحرب الأوكرانية حدود الدول، لكنها بالتأكيد ستغير الأفكار والعقائد والاستراتيجيات. أوليست عودة ألمانيا الى التسلح تغييراً هائلاً؟ ألن تتبعها اليابان؟ ألن يصعد اليمين المتطرف المقاتل في أوروبا وغيرها رداً على "تخاذل" الأنظمة وتراخيها؟ ألن يعود العالم الى سباق تسلح يصل الى ما أبعد من المريخ؟ سيتغير العالم، على أمل أن نتغير أيضاً.
مشاركة :