منذ دخلت الرأسمالية إلى كلمة ومفهوم “الإنفلونسرز” غيرت معناها وبدلت مفهومها تمامًا، فصارت دلالة المصطلح الاستعمالية والوظيفية مختلفة عن السابق، وتحولت الكلمة من صفة إلى مهنة. فصك لنا معجم الرأسمالية التعريف الجديد لكلمة “المؤثر” (influencer) وعرفها بأنها “التعاون مع العلامات التجارية والتأثير على الآخرين من أجل حثهم على شراء المنتجات”. ويبدو أن الرأسمالية نجحت في بث هذا المفهوم، فمعايير ومفاهيم التأثير القديمة أصبحت من الماضي، وصرنا اليوم أمام مفهوم جديد برأسمال مرتبط بالشكل، ومعتمد بالأساس على الصورة ونسبة المشاهدة وعدد المتابعين. ذاك هو الطاغي والمنتعش في رأسمالية الإنفلونسرز، والتي أصبحت صناعة كبيرة تدر مليارات من الدولارات. صناعة الإنفلونسرز هل يمكن للمجهولين أن يصبحوا إنفلونسرز مؤثرين؟ في الآونة الأخيرة أراد الكاتب والصحافي التقني نيك بلتون توثيق ما يجري في عالم الإنفلونسرز، فشرع في القيام بعمل تجربة اجتماعية تَهدفُ إِلى فَحص وتحليل هذه الظاهرة، والكشف عن المستفيد الأكبر منها، والتقى بلتون بخبراء من المحتوى الرقمي، ومستشاري وسائل التواصل الاجتماعي، وأدرج رواياتهم في تجربته التي سجلها في الفيلم الوثائقي “Fake Famous”. وكانت بداية التجربة أن قام بلتون وفريق عمله بنشر دعوة عامة إلى أيّ شخص يطمح في أن يصبح “مؤثرًا” بالحضور إليهم، ليفاجأ فريق العمل باستجابة عدد كبير (5000 شخص) وليطرح بلتون عليهم السؤال “لماذا تريدون أن تكونوا ‘مؤثرين’؟”. كانت معظم الإجابات تدور حول الدوافع النفعية للأشخاص، والإحساس بالذات وتغير نمط الحياة وجعله أقرب إلى نمط الاستهلاك، وبالتالي هُم يُرِيدُونَ أن يصبحوا مؤثرين لا لإفادة الناس والشعور بالهدف والمسؤولية المجتمعية، ولكن لتغيير مستواهم الاجتماعي، والانطلاق من زاوية “المؤثر” للحصول على ما يريدونه. وبالطبع تختلف الأسباب لدى جميع الإنفلونسرز، لكن بالنظر إلى الواقع نجد أن أغلب إجابات الأشخاص المتواجدين في الفيلم هي السمة الغالبة لدى معظم الإنفلونسرز. نيك بلتون يطرح السؤال.. لماذا تريدون أن تكونوا "مؤثرين"؟ ومن بين هذا العدد الكبير الطامح إلى دخول عالم الإنفلونسرز اختار بلتون منهم ثلاثة أشخاص عاديين وغير مشهورين أو موهوبين، ولديهم عدد قليل من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي. ثلاثة أشخاص في العشرينات ويعيشون في لوس أنجلس؛ دومينيك شابة تعمل في متجر للملابس، ثم وايلي مساعد لوكيل عقارات، ثم كريس يعمل أيضا في متجر للملابس، وكل طموحهم هو أن يصبحوا إنفلونسرز مشهورين، وهنا يأتي دور الكاتب والمخرج نيك بلتون ليأخذ الأشخاص الثلاثة في تجربة أشبه بالرحلة من أجل السفر بهم إلى وطن الإنفلونسرز. يبدأ الفيلم بمشهد معبر جدًا نرى فيه مجموعة من الأشخاص الذين جاؤوا خصيصًا لزيارة جدار وردي شهير “Paul Smith Wall” في مدينة لوس أنجلس، وهو من أكثر الأماكن التي يتم تصويرها على إنستغرام وأصبح في الفترة الأخيرة أحد أشهر مناطق الجذب السياحي في لوس أنجلس، ويوضح لنا مخرج الفيلم أن هؤلاء الأشخاص جاؤوا إلى هذا الجدار من أجل التقاط الصور فقط. لكن لماذا أصبح هذا الجدار العادي مشهورًا جدًا؟ وكيف تحول جدار لا يظهر فنًا، ولا تاريخا أو أعجوبة معمارية، أو حتى يثير أي تجربة عاطفية، إلى هذه القيمة الكبيرة؟ إنه ببساطة مشهور بكونه مشهور! فالرغبة في تحقيق الشهرة حفزت الناس على التحرك بغرابة في كل شيء، وإعطاء قدر كبير للأشياء الفاقدة للمعنى أصلًا، بل وجعل الأشياء المشوهة تبدو في أروع صورها، فبسبب ترويج بعض الأشخاص للجدار، وجعله مرتبطًا بالشهرة وبنمط حياة معين، حفز ذلك الأشخاص نحو الذهاب والسفر إلى هذا الجدار، والتقاط الصور لنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي أملًا أن تنال الصورة إعجاب الآلَاف من الأَشخاص. هل تصدق أن البعض اشتُهِر بسبب ذلك؟ وهنا يتحول الإنسان نفسه إلى لوحة فارغة بلا ملامح، تمامًا كجدار بول سميث. كيف تتم صناعة الإنفلونسرز؟ من خلال تصدير المعاني المزيفة يتم بناء واقع موهوم وفق آليات تزييف المعاني والمشاعر عوضًا عن الحقيقة يستمر الفيلم في تقديم الأشخاص الثلاثة الطامحين إلى دخول عالم الإنفلونسرز، ويبدأ بلتون مع فريق عمله من خلال خطوتين فقط: الأولى هي “تزييف الشهرة”، والثانية هي “تزييف نمط وأسلوب الحياة”. فيبدأ أولًا بعملية شراء متابعين، وهي خطوة سهلة جدًا تتم على أحد المواقع التي تقوم ببيع متابعين مزيفين لمواقع التواصل الاجتماعي، ويتم من خلالها شراء الآلاف من الروبوتات التي تضخم عدد المتابعين، وتوزع الإعجابات والتعليقات في كل مرة تنشر فيها محتوى جديدا، ويمكنك حتى اختيار جنس الروبوتات وميولها السياسية، فالروبوتات تجعل الأرقام تبدو أفضل، وإن كانت مزيفة، وتجعل الشخص يبدو مشهورًا، أو أكثر شهرة مما هو عليه. ويذهب بلتون إلى أن معظم الإنفلونسرز وحتى الأشخاص الذين حققوا نجاحًا كبيرًا مثل كيم كارداشيان يقومون بشراء الروبوتات من أجل تضخيم حساباتهم على مواقع التواصل كي يكسبوا صفقات أفضل مع المعلنين والجهات الراعية. ويشرح بلتون السبب في غض الطرف عن هذه الممارسات من قِبَلِ شركات التواصل الاجتماعي، فيؤكد على أن هذه الممارسات المزيفة تساوي عائدات مالية متزايدة، وفي بساطة نتساءل لماذا لا تقضي شركات وسائل التواصل الاجتماعي على مشكلة المتابعين المزيفين بدلا من القضاء على حسابات الفلسطينيين الحقيقيين؟ ظاهرة ليست لها ضوابط مهنية معينة ولذلك تحكمها الفوضوية بشكل ما مع تركيزها على ما يطلبه الجمهور ويؤكد بلتون على أن الروبوتات تشكل نصف التفاعل على منصة إنستغرام ويبرهن على ذلك بوجود 40 مليون حساب أميركي لدى كل واحد منها أكثر من مليون متابع، وأيضًا 100 مليون حساب لدى كل واحد منها أكثر من 100 ألف متابع، فكيف إذن يمكن اعتبار أن أكثر من 140 مليون شخص – أي ما يعادل أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة – إنفلونسرز مشهورين؟ وَعلى قَدرِ ما يَبدُو الموضوع في غاية الغرابة والابتذال، إلا أنه بعد فترة قصيرة يولد نتائج حقيقية، ويتحول التأثير المزيف الذي تم شراؤه إلى شَيء حقيقي. وبعد أن قام بلتون بشراء المتابعين، يقول إنه دفع حوالي 120 دولارًا للحصول على 7500 متابع و2500 تفاعل، يأخذنا بعدها إلى الخطوة الثانية، وهي تزييف نمط وأسلوب الحياة بالنسبة إلى الأشخاص الثلاثة، فيقوم منتجو الفيلم بعمل جلسة تصوير احترافية تُظهِر دومينيك ووايلي وكريس في أسلوب حياة فاخر كي يتم خداع المتابعين. فَمَثَلًا تَظهَر دومينيك ووايلي على أنهما يحتسيان عصير التفاح على أنه شامبانيا، وفي حالة أخرى تضع دومينيك رأسها في حوض سباحة للأطفال مليء بالورود، لتجعل الأمر يبدو وكأنه في فندق فخم. وفي الصورة الأكثر غرابة، يقوم بلتون بتزييف رحلة طيران خاصة لدومينيك باستخدام مقعد المرحاض وبشكل يحاكي نافذة الطائرة! وعند نشر هذه الصور يقومون بإضافة اللوكيشن في الأماكن المشهورة، ويعلق بلتون “نحن ببساطة نفعل ما يفعله الكثير من الإنفلونسرز، نحن نزيف الأمر (…) الجميع تقريبًا يفعل ذلك بشكل أو بآخر”. فراغ النجومية Thumbnail كانت المفاجأة سريعة جدًا، وبدأ المتابعون الوهميون في جذب انتباه الأشخاص الحقيقيين، وقفز حساب دومينيك بشكل جنوني وصل إلى 250 ألف متابع (وهي الآن إنفلونسرز مشهورة ولديها ما يقرب من 324 ألف متابع على إنستغرام) وعلى الفور قامت العلامات التجارية بالتواصل معها، وأرسلت لها الكثير من الدعوات والمنتجات المجانية، بدءًا من النظارات الشمسية والملابس والإلكترونيات.. وُصُولًا إلى المجوهرات الباهظة. وأصبحت دومينيك تُطور جمهورًا من خلال نشر مقاطع فيديو عن حياتها الشخصية اليومية – كيف تأكل وتشرب والأماكن التي تسافر إليها والمطاعم التي تأكل فيها – ومن خلال عرضها لتفاصيل حياتها اليومية يتم الإعلان عن المنتجات التي تقوم بفتح صناديقها أمام الكاميرا، ومن ثم تُحدّث الناس عن تجربتها الرائعة مع هذه المنتجات التي أرسلتها لها الشركات. وتقوم دومينيك بربط هذه المنتجات بمفاهيم عاطفية بعيدة كل البعد عن المنتج، فكل ما تقوم به هو مشاركة الناس في أدق تفاصيل حياتها اليومية مع احتضان منتج، وبهذا يصبح الشخص إنفلونسر على مواقع التواصل، ومع الوقت يصل الأمر به إلى أن يكون سفيرًا لإحدى العلامات التجارية، والمدافع عنها إن تطلب الأمر. واحدة من أكثر النقاط الهامة التي ركز عليها الفيلم تسليطه الضوء على طبيعة أسلوب وحياة المؤثرين، وكيف أن نمط حياة الإنفلونسر يجعله طول الوقت تحت الضغط النفسي والعصبي، لا ننسى أن الشرط الأساسي لأن يكون الشخص إنفلونسر هو في وجود عدد كبير من المتابعين – بغض النظر عن السبب الذي تابعوه – وحتى مع زيادة أعداد المتابعين، فإن هذا يزيد من الضغط عليه، ويركز على ما يريده الجمهور لينساق وراءهم ويشكل حسب توقعهم، وليس من هو حقًا، وهو ما سيجعله يعيش بين مطرقة المتابعين وسندان رضا الشركات. وبالتالي فالإنفلونسر يستمد قيمته من الأرقام، عدد المتابعين والمشاهدات والإعجابات والتعليقات، بل إن هذه الأرقام هي ما تصنعه فعلًا، وهي تعتبر العملة الحالية لإنفلونسرز اليوم. إضافة إلى أن الإنفلونسر مُضطَر أيضًا إلى تزييف أسلوب حياته، وحتى وإن أظهر كل تفاصيل حياته للناس، فإنه سيتظاهر دائمًا بأنه يعيش أسلوب حياة رائع ومختلف عن باقي الناس، وبالطبع لن يستوعب الناس أن حياة الإنفلونسرز الحقيقية ليست دائما كما يصوّر، وأن غرف معيشتهم لا تغمرها أشعة الشمس الحقيقية دائما. والناس أصبحوا يدركون بأن المطلوب هو اللقطة نفسها، حتى ولو كانت اللقطة استثمارا في أدق تفاصيل الحياة الأسرية والشخصية، وللتأكيد على مدى هذه السخافة يعلق باراتوندي ثورستون بقوله “يشتري الناس أجهزة إضاءة لتصوير حياتهم الخاصة بحيث تبدو رائعة للأشخاص الذين يرغبون في أن يكونوا جزءًا من تلك الحياة”. Thumbnail وكل هذا من شأنه أن يصيب الإنفلونسرز بمشاكل نفسية خطيرة، وهو ما حدث فعلًا للعديد منهم، ولعل أشهرهم هي Laina Morris والتي وصلت إلى أعلى المراتب في عالم الإنفلونسرز، قناة يوتيوب ناجحة تضم أكثر من 1.26 مليون مشترك، ومئات الملايين من المشاهدات… حققت كل شيء، لكنها فقدت المعنى تمامًا من وراء كل ذلك، ودخلت في مرحلة اكتئاب قررت على إثرها ترك واعتزال هذا المجال، وقامت بتصوير فيديو وداع أخير، تكلمت فيه عن جزء بسيط من حياة القلق والتوتر التي تعيشها خلف الكاميرا، ومع ذلك كانت الصدمة الأكبر بالنسبة إلى الجمهور، لأنه يرى معظم الوقت الوهم الذي عرضته الإنفلونسرز. وعلينا أن نعلم أن هذه الظاهرة لا توجد لها أَي ضوابط مهنية معينة تلتزم بها، ولذلك تحكمها الفوضوية بشكل ما، مع تركيزها على ما يطلبه الجمهور، وهو ما أدى إلى انتشار محتويات العنف والجنس…إلخ. “كل شيء في هذه الصناعة مزيف”. هكذا عبّر بلتون ولطالما كان مدافعًا عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويكتب حول التأثيرات الإيجابية لها على المجتمع، إلى أن انتهى به المطاف إلى التحذير منها ومن هذه الظاهرة مُشِيرًا إلى أن الإنفلونسرز لا يجعلونك تشعر بالرضا تجاه نفسك. فبينما أنت تتابع وتشاهد هؤلاء الإنفلونسرز وتقوم بالتفاعل معهم، فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه بكثير. يصل إلى تصديق المعاني المزيفة التي يحملها الإنفلونسرز، وتفسير الحياة والواقع من خلال وهم شاشات الإنفلونسرز، ومقارنة هذا الوهم بالواقع الأصلي الذي تعيشه، وهذا هو عين الإشكال في هذه الظاهرة – هيمنة الوهم على وعي الإنسان وفقدان معان حقيقية مقابل معان مزيفة – فمن خلال تصدير المعاني المزيفة، سيتم بناء واقع موهوم وفق آليات تزييف المعاني والمشاعر عوضًا عن الحقيقة. والمتابع يعجب بشخص الإنفلونسر ويثق به أكثر من المنتج نفسه. لاسيما وأن الإنفلونسر يعتمد بالأساس على مستوى المشاعر والسلوكيات لدى الأفراد، وهذا يجعلك تشعر بالرغبة في شراء الأشياء التي يعرضها عليك. والإحساس بأن السعادة تكمن في المزيد من الاستهلاك، حتى وإن كنت في غير حاجة لذلك. والناس يرون الإنفلونسرز – كما يصورون – على أنهم يتمتعون بنمط حياة مذهل في كل شيء: يعيشون في إجازة، ويأكلون أفضل الأطعمة، ويرتدون أفضل الملابس، ولديهم أفضل المنتجات، غرف معيشتهم تغمرها البهجة والسعادة، وهذا سيضع المتابع في دائرة المقارنة، ولعله يشعر بالسوء والعجز، لأنه لا يفعل مثلما يفعل الإنفلونسرز، وسيؤدي به الحال إلى السخط والإحساس بأن حياته ونمط عيشه مملان وسيئان، وليس كحياة الإنفلونسرز السعيدة. العقيدة الرأسمالية Thumbnail سَوَاء أدرك جمهور من يتابعون الإنفلونسرز أم لا، فإنهم في الحقيقة مجرد رقم اقتصادي وواجهة إعلانية يستخدمها الإنفلونسرز في حساب الأرباح، ويستفيد منها أصحاب العلامات التجارية. وَسَوَاء أدركوا ذلك أم لا، فإن حياة الإنفلونسرز ليست دائمًا كما تبدو، وغرف معيشتهم لا تَغمُرُهَا السعادة دائمًا. على الرغم من تَعَدُّدِ سلالات الإنفلونسرز المختلفة، فإن التأثير على المتابع لم يعد في حدود الأفكار والمعتقدات فحسب، بل امتَدّ إلى أسلوب النظر إلى الأشياء، وعلى جل تجليات الحياة اليومية، فالإنفلونسر اليوم هو الذي يصنع ويخلق الواقع وفق منظور الرأسمالية، إنه يبني وطنا سطحيا مزيفا، وهذا ما تنبه له السوسيولوجي الفرنسي جون بودريار حيث يكشف لنا كيف استطاعت أيقونات الإعلام اليوم أن تشيد مجتمعًا على رؤيتها، مجتمعًا استهلاكيًا يؤمن بالمظهر والسطحية والسرعة، وحياة السعادة في استهلاك المنتوجات والترفيه والتسلية، كما تسعى لصناعة المجتمع وفقًا لرموزها. فالظاهرة لم تعد مجرد عرض للمنتجات ولأسلوب حياة كل فرد فيها، بل صار الأمر أيديولوجيا تفرض نفسها، وتسعى لبث قيم ومعتقدات جديدة، وتبرع في التسويق لهذه الأيديولوجيا بأسلوب جذاب وغير أخلاقي، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى نحر الثقافة الوطنية أمام تزايد الأيديولوجيا الأقوى الساعية لفرض نسق واحد من القيم حتى ولو تعددت أشكالها. بماذا سيحلم مواليد شبكات التواصل الاجتماعي؟ لعل أهم ما تميز به الوثائقي هو استثارته لأسئلة مثيرة للاهتمام في أوقاتنا، منها رغبة الأجيال الصغيرة في أن يصبحوا إنفلونسرز، فمثلًا يذكر بلتون أن الأطفال في الولايات المتحدة يريدون أن يكونوا إنفلونسرز أكثر من أي مهنة أخرى، وأظهر البحث الذي ظهر في الوثائقي أنه بينما كان العديد من الأجيال السابقة يطمحون إلى أن يَروا أنفسهم معلمين ورواد فضاء وأطباء، فإن عددًا كبيرًا من جيل الألفية الصغار يطمحون إلى أن يكونوا إنفلونسرز مشهورين. لينا موريس وصلت إلى أعلى المراتب في عالم الإنفلونسرز… حققت كل شيء، لكنها فقدت المعنى تمامًا من وراء كل ذلك ففي ظل المشهد الثقافي الممزق وغياب التوجيه الأسري والاجتماعي الصحيح فإن هذه الأيديولوجيا ستجد طريقها إلى الصغار، ولا أستطيع إنهاء هذه السطور وبصفتي دارسًا للإعلام الإلكتروني، قبل التنبيه إلى خطورة هذه الظاهرة على الأطفال، المتضرر الأكبر وأهم فئة تتأثر سريعًا بمحتوى الإنفلونسرز، وهناك العديد من الأبحاث والدراسات التي تكلمت عن خطورة هذه الظاهرة على الأطفال. وحاليًا بدأ الترويج لنموذج الطفل الإنفلونسر الذي يقلد الإنفلونسرز الكبار، إضافة إلى استغلال البعض لأبنائهم في هذه الصناعة من أجل المال، وهو شيء كارثي ومأساة أن يتربى جيل على هذا الوهم والتيه الذي يفقدهم الهوية الأصلية. في نهاية هذا المقال، نستطيع القول إن ظاهرة الإنفلونسرز تحيلنا إلى واقعنا المؤلم بأوضاعه المركبة وحركاته المائجة، خصوصًا وأن هذه الظاهرة باتت تنمو بأقصى ما يمكن من السرعة والفاعلية، واقتحمت الأبواب عنوة غير مبالية ولا مستأذنة، مهددة المقومات الاجتماعية والثقافية. وبالرغم من ندرة الدراسات العربية في استكشاف وتحليل هذه الظاهرة، إلا أن مثالبها وأخطارها أصبحت بادية للعيان، فتأثيرها السلبي كبير جدًا ومنعش ومزدهر جدًا، وتأثيرها الإيجابي محدود جدًا، وبالتأكيد ليس كل مؤثر مزيف، وهناك البعض منهم يعالج قضايا مهمة، إلا أن الغالبية لا يقدمون نفعًا حقيقيًا، وهذا منعكس بشكل كبير على واقع المجتمعات وميلها الشديد والزائد نحو العنف والتفاهة! خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أن الإنفلونسر نفسه لا يعتمد على مكونات شخصيته الحقيقية، إنما على نقصها. ومما يؤسف، تأثر شريحة كبيرة بمحتوى الإنفلونسرز، وتقليد ما يشاهدونه، وتشكيل ثقافتهم وتصوراتهم من خلال هذا المحتوى، حيث أصبح أسلوب حياة الإنفلونسرز نموذجا مغريا يريد الناس تقليده، خصوصًا مع عرضهم للمكاسب المالية التي يحصلون عليها، وهو ما أغرى بعض الشباب إلى اعتبار أن هذا هو أكثر الخيارات طموحًا، وهو ما جعل أيضًا البعض يقومون بأشياء مفتقدة لأي معنى وفي غاية الغرابة كي يجذبوا بها الناس. ومع عدمية المعني وتسطح المشاعر والأفكار بشكل مزعج، لم يعد هناك فرق بين الشهرة والتأثير، وأصبحت الشهرة والرقم نفسه – عدد الفولورز – مقياسا للتأثير! ويستضيف الإعلام رموز هذه الظاهرة، ويقدمهم على أنهم مختلفون مواكبون للتطور وأصحاب رؤية شبابية! وبالطبع يستفيد من كل ذلك أصحاب العلامات التجارية. ويبدو أن هذه الظاهرة ستتنامى بشكل أكبر مما هي عليه اليوم، خصوصًا مع التشجيع عليها، وقيام بعض الشركات والجامعات العالمية بتقديم كورسات للمساعدة على نمو هذه الظاهرة، فالرأسمالية تزدهر أكثر بصعود الإنفلونسرز المزيفين، حيث يدر هذا التزييف مليارات من الدولارات على هذه الصناعة التي تعتمد علي تزييف الأفكار والمشاعر أكثر من المنتجات الحقيقة! وهكذا تهدد الثقافة الوطنية أمام تسيد الثقافة الرأسمالية.
مشاركة :