ينصهر الفنان التشكيلي السوري أحمد قليج في المعاناة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد، محاولا خلق معادلة فنية معقدة تمكنه من التعبير عن الهموم اليومية بتراتيل لونية متقاربة تفتح للمتلقي آفاقا واسعة للتأمل والتحليل. منذ بدء الوجع السوري لم يكن التشكيلي أحمد قليج المولود في معراته - عفرين في العام 1964 خارج دائرة الصراع السوري وتأثيراته العميقة في الفنون، قياسًا على ما أنتجه من أعمال فنية تواكب هذا الوجع، فهو لم ينقل الحدث كما هو لأنه يرفض أن يتحول إلى كاميرا تلتقط المشاهد الموجعة من هنا أو من هناك. لهذا يلجأ أحمد -ضمن تحديات قد تكون معادله الإبداعي في عملية التعبير عن هموم ما عاد من الممكن السكوت عنها- إلى تفكيك المشهد ومن ثم اللجوء إلى إعادة الصياغة والتركيب حسب ما يراه هو منطلقاً من مقولة باتت معروفة لدى معظم الفنانين بأن الفن الحقيقي هو التعبير الخيالي بلغة جديدة فيها الكثير من الانفعالات والمشاعر الذاتية، وبالسعي جاهدا وبتقنيات خاصة نحو تحقيق قيم جمالية. الفنان التشكيلي أحمد قليج يملك رؤيا تثقب الزمن وتقارب الحياة بكل تجلياتها دون شروط أو قيود ومن المؤكد أن دوافع الانتقال عند قليج نحو مركزية تلك القيم تتجاوز المألوف لدى العامة، وتكاد تختزل كل ما يتراءى له من أطياف، وما يزدحم في منجزه من صيحات الألم ما هو إلا توطئة نحو رحم مفعم بمشهديات موجعة جداً؛ فقليج وبتعبيرية درامية وبتساؤلات مفتوحة يوقع المتلقي في ملاحقة أدق تفاصيل صياغاته، تلك التفاصيل شديدة الثراء قيميّا. وفي السياق ذاته يدفع المتلقي نحو تشكيل أفق يكتظ بالدلالات مما يكسبه حيزاً في الزمان والمكان، ويمكن بالتالي أن يمضي بالمتلقي نحو تفرعات معظمها تحمل دقائق الألم، لن تكتمل معه مهما حاول هذا المتلقي أن يمتلك آليات التداخل مع فضاءات العمل المنجز. وقليج -وبخاصية الفنان الباحث- لا يلبي حاجة آنية بقدر ما يسير نحو خلق حاجة غير متناهية، وبحرفية الخالق يدرج قليج قسطاً وافراً مما يشتغل عليه ضمن خطابه التشكيلي الذي يحمل كل مكونات الجدل اللذيذ، والأهم عند قليج هو مسعاه الحثيث للوصول إلى ما يمكن تسميته بالبنية العميقة لمنجزه بالاستفادة من تلك الأبعاد والمداخلات الكثيرة التي تحوم في فضاءاته. وحاولنا أن نفرز منجزه من الناحية الفنية دون أن نطمس تلك الحدود التي قد تعترضنا، ولكن وجدنا أن قليج يعزف على سيمفونية التعب بتراتيل لونية متقاربة تكاد تحتضن جل أعماله المنجزة مع ولادة الوجع الأخير، وانطلاقاً من قدرته على البحث المنطلق من عمق الهواجس التي تنتابه في لحظات الخلق يرسم المشهد القائم بانوراميّا دون أن يتوخى أية إشارة قد تعترضه في مواضع كثيرة، ولهذا تبقى مرجعية الواقع الموضوعي معياراً له في طرح تساؤلاته المسهبة المحكومة بالقيم الجمالية والمعبأة بنكهة وجع البلاد. اللوحات مرآة لغدنا اللوحات مرآة لغدنا أحمد قليج من الأسماء المهمة في الحراك التشكيلي الكردي والسوري، له من الرصيد ما يجعل له حضوراً فاعلاً في هذا الحراك. عاش في حلب ومن مركز فتحي محمد فيها حصل على دبلوم في الفنون التشكيلية. قدم العديد من المعارض الفردية والجماعية، ولعل أهمهما ارتحال (1) 2007 في غاليري زمان ببيروت، وارتحال (2) 2008 في دار الأوبرا بدمشق، وكأنه كان يتنبأ بسيرة البلاد وما آلت إليه؛ فهو منذ البدء يملك حدساً يغور لا في التاريخ فحسب بل في الذي لم يأت بعد، وحده يأتي به ويفرشه لنا على بياضه وكأنه مرآة لغدنا، أو لنا ونحن نستيقظ منها بعد سنوات لنجد وجوهنا التي سبقتنا في الهجرة والترحال، فبحق الفنان الحقيق نبي عصره يقرأ القادم الذي لم يأت بعد. هكذا يمكن تعميم ما سبق بأنه تطور ذاتي على كل الواقعية في حالاتها المختلفة، بأنه نبوءة متفقة مع خصائص عالمه الداخلي، مع العلاقة القائمة بين تصرفات الإنسان ونمط شخصيته والتي لا يمكن أن تنسفها قوى العالم الآخر مهما كان تدخلها كبيراً. السوري أحمد قليج يدفع المتلقي نحو تشكيل أفق يكتظ بالكثير من الدلالات مما يكسبه حيزا في الزمان والمكان ويملك الفنان قليج رؤيا تثقب الزمن وتقارب الحياة بكل تجلياتها دون شروط أو قيود، وهذا ما يجعلنا نقرأ ونفهم المعنى والمغزى الإنساني لوجوهه وحالاتها، وتكفي للدلالة على ذلك مقارنة ألوانه القاتمة بالوجع الكبير ذاته، وتبيُّن أنها تقترن بمبدأ الحتمية الاجتماعية كمعبر عنها على نحو متفاوت الوضوح، وهو الذي يبرز بأشكاله المختلفة والمؤلمة الإنسان الذي تسحقه الحياة القاسية في ظروف مجتمع الاستغلال والحرب، متحدثاً بنماذجه الفنية المختلفة -التي تملك قوة مختلفة عن الإنساني في الإنسان- عن كل ما يمكن أن يعبّر له عن الوجود الإنساني. ويقف قليج على درجة عالية من سلم الكفاءة الفنية، مجسداً في أعماله ما هو إنساني عام ومتكئاً على الجانب السيكولوجي والدوافع الإنسانية في كل حالاته، وهذا ما يشغل المجال الواسع لنشاطه العملي والفني، وما أعماله إلا نثريات موجعة من الحياة اليومية بها يكتشف جوهريتها وجوهرية عمق التصوير الواقعي للإنسان والقدرة على نقل أسراره والمكنونات الخاصة به ووضعها أمامنا وعلى مائدتنا. والفنان التشكيلي الذي مارس النشاط السياسي دون تحزب وانغلاق، يقول واصفا الفن التشكيلي “وجدت في اللوحة ملاذي، حيث شعرت بعد إنجاز اللوحات أنني شفيت غليلي وحين تعرض اللوحات أمام الجمهور أسر وأستمتع بهذا التواصل وبمعرفة تأثير كل مفردة صغيرة أضعها برسم الناس، وأعبر عن أشياء كثيرة من خلالها على وجوه الناس”. ويتتبع قليج في معظم لوحاته وجوه الرجال والنساء، وأحيانا يرسم الشخوص كاملة، ومن خلال هذه الوجوه يصور للمتلقي تجارب اليأس والفقدان والفقر والوحدة والاكتئاب، وهي تجربة مستمرة تغيرت ألوانها وزوايا النظر فيها، لكن دائما ثمة حكاية ترويها لوحاته التي تلج إلى تعابير الأعماق والوجدان الفردي والجمعي، وما يندفن في طيّاتها ممّا يبقى بعد لحظة الرسم والتعبير.
مشاركة :