منذ بدء الوجع السوري لم يكن التشكيلي أحمد قليج (معراته - عفرين 1964) خارج الدائرة بالقياس على ما أنتجه من أعمال فنية تواكب هذا الوجع، فهو لم ينقل الحدث كما هو لأنه يرفض أن يتحول إلى كاميرا تلتقط المشاهد الموجعة من هنا أو من هناك، ولهذا يلجأ أحمد وضمن تحديات قد تكون معادله الإبداعي في عملية التعبير عن هموم ما عاد من الممكن السكوت عنها، إلى تفكيك المشهد ومن ثم اللجوء إلى إعادة الصياغة والتركيب حسب ما يراه هو، منطلقاً من مقولة باتت معروفة لدى معظم الفنانين بأن الفن الحقيقي هو التعبير الخيالي بلغة جديدة فيها الكثير من الإنفعالات والمشاعر الذاتية، وبالسعي جاهداً وبتقنيات خاصة نحو تحقيق قيم جمالية، ومن المؤكد أن دوافع الإنتقال عند قليج نحو مركزية تلك القيم تتجاوز المألوف لدى العامة، وتكاد تختزل كل ما يتراءى له من أطياف، وما يزدحم في منجزه من صيحات الألم ما هي إلا توطئة نحو رحم مفعم بمشهديات موجعة جداً، فقليج وبتعبيرية درامية وبتساؤلات مفتوحة يوقع المتلقي في ملاحقة أدق تفاصيل صياغاته، تلك التفاصيل الشديدة الثراء قيمياً، وفي السياق ذاته يدفع المتلقي نحو تشكيل أفق يكتظ بالدلالات مما يكسبه حيزاً في الزمان والمكان، ويمكن بالتالي أن يمضي بالمتلقي نحو تفرعات معظمها تحمل دقائق الألم، ولن تكتمل معه مهما حاول هذا المتلقي أن يمتلك آليات التداخل مع فضاءات العمل المنجز، فقليج وبخاصية الفنان الباحث لا يلبي حاجة آنية بقدر ما يسير نحو خلق حاجة غير متناهية، وبحرفية الخالق يدرج قليج قسطاً وافراً مما يشتغل عليه ضمن خطابه التشكيلي الذي يحمل كل مكونات الجدل اللذيذ، والأهم عند قليج هو مسعاه الحثيث إلى الوصول إلى ما يمكن تسميته بالبنية العميقة لمنجزه بالإستفادة من تلك الأبعاد والمداخلات الكثيرة التي تحوم في فضاءاته. وحاولنا أن نفرز منجزه من الناحية الفنية دون أن نطمس تلك الحدود التي قد تعترضنا ولكن وجدنا بأن قليج يعزف على سيمفونية التعب بتراتيل لونية متقاربة تكاد تحتضن جل أعماله المنجزة مع ولادة الوجع الأخير، وإنطلاقاً من قدرته على البحث المنطلق من عمق الهواجس التي تنتابه في لحظات الخلق يرسم المشهد القائم بانورامياً دون أن يتوخى أية إشارة قد تعترضه في مواضع كثيرة ولهذا تبقى مرجعية الواقع الموضوعي معياراً له في طرح تساؤلاته المسهبة المحكومة بالقيم الجمالية والمعبأة بنكهة وجع البلاد. أحمد قليج من الأسماء المهمة في الحراك التشكيلي الكردي والسوري، له من الرصيد ما يجعل له حضوراً فاعلاً فيه، عاش في حلب، ومن مركز فتحي محمد فيها حصل على دبلوم في الفنون التشكيلية، قدم العديد من المعارض الفردية والجماعية، ولعل أهمهما إرتحال "1" 2007 في غاليري زمان ببيروت، وإرتحال "2" 2008 في دار الأوبرا بدمشق وكأنه كان يتنبأ سيرة البلاد وما آلت إليها، فهو منذ البدء يملك حدساً يغور لا في التاريخ فحسب بل في الذي لم يأت بعد، وحده يأتي به ويفرشه لنا على بياضه وكأنها مرآة لغدنا، أو لنا ونحن نستيقظ منها بعد سنوات لنجد وجوهنا التي سبقتنا في الهجرة والترحال، فبحق الفنان الحقيق نبي عصره يقرأ القادم الذي لم يأت بعد، وهكذا يمكن تعميم ذلك بأنه تطور ذاتي على كل الواقعية في حالاتها المختلفة، بأنه نبوءة متفقة مع خصائص عالمه الداخلي، مع العلاقة القائمة بين تصرفات الإنسان ونمط شخصيته والتي لا يمكن أن ينسفها قوى العالم الآخر مهما كان تدخلها كبيراً، فقليج يملك رؤيا تثقب الزمن، وتقارب الحياة بكل تجلياتها دون شروط ودون قيود، وهذا ما يجعلنا نقرأ ونفهم المعنى والمغزى الإنساني لوجوهه وحالاتهم، ويكفي للدلالة على ذلك مقارنة ألوانه القاتمة بالوجع الكبير ذاته، وبأنها تقترن بمبدأ الحتمية الإجتماعية كمعبر عنها على نحو متفاوت الوضوح، وهو الذي يبرز بأشكاله المختلفة والمؤلمة الإنسان الذي تسحقه الحياة القاسية في ظروف مجتمع الإستغلال والحرب، متحدثاً بنماذجه الفنية المختلفة والتي تملك قوة مختلفة عن الإنساني في الإنسان، عن كل ما يمكن أن يعبر تعبيراً له في الوجود الإنساني، فقليج يقف على درجة عالية من سلم الكفاءة الفنية، مجسداً في أعماله ما هو إنساني عام متكئاً على الجانب السيكولوجي والدوافع الإنسانية في كل حالاته، وهذا ما يشغل المجال الواسع لنشاطه العملي والفني، وما أعماله إلا نثريات موجعة من الحياة اليومية بها يكتشف جوهريتها وجوهرية عمق التصوير الواقعي للإنسان والقدرة على نقل أسراره والمكنونات الخاصة به ووضعها أمامنا وعلى مائدتنا.
مشاركة :