أدركت فرنسا الخط النهائي للاستحقاق الانتخابي الرئاسي الذي ستكون جولته الأولى يوم 10 أبريل المقبل، على أن تكون الجولة الثانية يوم 24 من الشهر ذاته، إذا لم يحصل أيّ مرشح على 50 في المئة من المصوّتين. وتأتي الانتخابات الفرنسية في ظرف إقليمي ودولي حسّاس ومهمّ ومفتوح على كلّ سيناريوهات التغيير في خريطة العلاقات والتحالفات الدولية، خصوصاً في ضوء استمرار الأزمة الأوكرانية وعدم التوصّل حتى الآن إلى حلول دبلوماسية تضمن الاستقرار الدائم في المنطقة، وهو استقرار لن يكون ممكناً ومقبولاً إلا إذا تبدّدت المخاوف والمخاطر التي تهدّد الأمن القومي لكلّ الأطراف بعيداً عن أجندات بعض الأطراف الدولية الأخرى التي تنتعش كلما توسّعت رقعة الحرب والدمار وانعدام الاستقرار في العالم، لأنها ترى في ذلك خلاصاً لها من أزماتها الداخلية الخانقة. الانتخابات الفرنسية الرئاسة تأتي أيضاً في ظرف تُطرح فيه تساؤلات عميقة حول الطبيعة الديمقراطية للمنظومة السياسية الغربية عموماً، والمنظومة التمثيلية الانتخابية على وجه الخصوص، والتي بدأت الأصوات تتعالى بأنّها تقادمت ولم تعد تلبّي حاجة الفرنسيين الذين كَبُرَتْ لديهم الجوانب المطلبية نتيجة للتدهور المتواصل للمقدرة الشرائية بسبب الأزمة الاقتصادية المستفحلة، التي عمّقتها جائحة كورونا والأزمة الأوكرانية مع روسيا، وكلّنا نتذكّر حركة السترات الصفراء التي أربكت لأكثر من سنة الدولة الفرنسية. وإذا كانت هذه التساؤلات مطروحة بنسب متفاوتة في أغلب الديمقراطيات الغربية، فإنها تأخذ في فرنسا أهمية أكبر، بحكم الدور التاريخي والريادي الفرنسي في إرساء المنظومة الليبرالية الغربية الحديثة، وهي لذلك تكثّف بوضوح هذه الظاهرة الجديدة التي ستعصف بالأسس التقليدية لهذه المنظومة، بدءاً بتفكيك الأحزاب التقليدية ووصولاً إلى تعويض المشهد الحزبي والسياسي بآخر موغلاً في قضايا الهوية الوطنية والقضايا الأيديولوجية، وهو الأمر الذي وفّر وقتياً مساحة لخطّ وسطي يعبّر عنه الآن الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، الذي استثمر ضعف الوسائط الحزبية التقليدية، وكذلك ضعف الوسائط المجتمعية ذات الصلة، وبالخصوص النقابات، وهو ما أكسبه بسهولة انتخابات 2017 ويرشّحه لكسب انتخابات أبريل المقبل، نظراً لكون المجتمع الفرنسي ما زال رافضاً إلى حدّ الآن، إيصال الأحزاب المتطرّفة من اليمين واليسار إلى الحُكْمِ، رغم اتّساع رقعة نفوذها وقاعدتها الانتخابية (أكثر من 55 في المئة من استطلاعات الرأي)، لكنّ هذا الوضع قد يتطوّر خلال المدة النيابية المقبلة، بما يفتح باب السلطة أمامها. إنّ الطابع الوقتي لهذا التوجّه الوسطي يأتي من كونه لم يُنضج خطّاً فكرياً بديلاً عن ما كانت تحمله الأحزاب التقليدية، وهو ما فتح أولاً الباب مشرعاً أمام أحزاب التطرّف من اليمين واليسار، وعمّق ثانياً التساؤلات حول مدى مشروعية وشرعية العملية الانتخابية، وبالتالي حول مدى تعبير نتائج هذه الانتخابات عن المشهد السياسي والمجتمعي الفعلي. ولعلّ غياب حملة انتخابية فعلية نتيجة أزمة كورونا، ثمّ بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، من شأنه أن يزيد في نسبة المقاطعين للانتخابات، وهو ما يُعطي ذريعة إضافية للمشكّكين في شرعية العملية الانتخابية. إنّ الجدل القائم الآن حول رفض الرئيس ماكرون محاورة المرشّحين الآخرين، يرى فيه الملاحظون محاولة لطمس التناقضات الفعلية داخل المجتمع الفرنسي، وهو ما قد يطفو مجدّداً خلال المدّة الرئاسية المقبلة، ويمنع الفائز في الانتخابات من ممارسة الحُكْم، ومن القيام بالإصلاحات الكبرى الضرورية والمطلوبة. ماكرون قد لا يفضل الحوار مع الآخرين، لأنّه غير مُجْدٍ في تقديره، وهو الذي تعطيه استطلاعات الرأي الفوز ضدّ كلّ منافسيه، وهو يرى أنّه يُجري الحوارات الميدانية مع المواطنين، لكنّ المختلفين معه لهم وجهة نظر مختلفة. معارضوه يرون أنّ هذه الحوارات لا تعوّض الحوارات الفعلية مع أطراف تحمل أفكاراً وبرامج مختلفة، وهي حوارات من شأنها مساعدة المواطن على حسن الاختيار بين المتنافسين. النتيجة هي أنّ أزمة المنظومة السياسية الليبرالية هي هيكلية وفعلية وتهدّد استقرار الديمقراطيات الأوروبية والغربية عموماً، ولا شيء يقيها السقوط في مستنقع الفوضى المجتمعية قَدْرَ القيام بإصلاحات حقيقية لتعديل أوتار هذه المنظومة الليبرالية، التي بشّر البعض أنّها حقّقت النصر الكامل والنهائي على كلّ ما سبقها من أفكار وأيديولوجيات. * كاتب تونسي طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :