في يوم «الثلاثاء الكبير» ظهر مجدداً التمايز بين الاتجاهين المتعارضين في «الحزب الديمقراطي» الأميركي في سياق التنافس حول المرشح القادم للانتخابات الرئاسية: مرشح الخط المسمى بالاشتراكي الراديكالي (بيرني ساندرز) ومرشح الوسط الليبرالي التقليدي (جو بايدن). ورغم استعادة بايدن حظوظه في الترشح للرئاسيات، فإن الديناميكية الانتخابية كشفت عن التحولات الفكرية والأيديولوجية العميقة التي يعرفها منذ سنوات حزب الليبرالية الأميركية. ومن المهم التنبيه هنا إلى أن مفهوم الليبرالية في السياق الأميركي يختلف نوعياً عن دلالته في المرجعية الأوروبية، باعتبار أنه يحيل إلى معنى التقدمية والمساواة في الحقوق الأصلية وفق معايير العدالة التوزيعية اجتماعياً. ومن هذا المنظور تقترب الليبرالية الأميركية من أحزاب الوسط الاشتراكي في أوروبا الغربية والشمالية. بدأ هذا التوجه مع الرئيس الأميركي الأسبق «فرانكلين روزفلت» الذي قاد الولايات المتحدة بعد الأزمة المالية العالمية (1929) من خلال برنامج «الصفقة الجديدة» New deal الذي قام على تدخل الدولة النشط في القطاعات الاجتماعية لسد اختلالات الحركية الاقتصادية من منطلق مفهوم الحرية الإيجابية التي لا تكتفي بضمان الحقوق المتساوية والحريات الأساسية، وإنما تسعى إلى تقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية. صحيح أن الولايات المتحدة لم تعرف في تاريخها الموجة الحادة من الاستغلال الطبقي والتوحش الرأسمالي التي عرفتها أوروبا الحديثة وبالتالي لم تقم فيها تنظيمات اشتراكية ثورية حقيقية وفق النموذج الأوروبي. وقد لاحظ الكيس دي توكفيل في كتابه الشهير «الديمقراطية الأميركية» (صدر 1830) أن النموذج الأميركي يتميز بالارتباط الخاص الذي يقيمه بين الحرية الفردية والمساواة، بما يفضي إلى نظرية في «المساواة الظرفية الأصلية» تختلف عن منظور المساواة الأوروبي من حيث كون النسق الاجتماعي يقوم ابتداءً على التماثل والمساواة بدلاً من أن يكون هذا التوجه هدفاً أيديولوجياً أو سياسياً يتم السعي له في العمل الحزبي أو النقابي. وهكذا قدّم بعض الباحثين الاجتماعيين عدة تفسيرات لانعدام تقليد اشتراكي في الحقل السياسي الأميركي (من أبرزهم عالم الاجتماع الألماني ورنر سومبارت المتوفى 1941 والباحث الاجتماعي الأميركي المعاصر سيمون لبست) ذهبت إجمالا إلى الإحالة لعدة عوامل أهمها: طبيعة النظام السياسي القائم على هيمنة حزبين قوميين كبيرين ودورة انتخابية واحدة والاقتراع غير المباشر، وتمايز مكونات الطبقة العمالية المتولدة أساساً عن مسار الهجرة، وحيوية الحركية المدنية، وغياب تجربة التحالف الفعال والدائم بين الأحزاب والنقابات، فضلاً عن طغيان القيم الفردية والرفاهية الشخصية بدلاً من العمل الجماعي. ورغم تشابه البرامج والأفكار والسياسات بين الحزبين الأميركيين الرئيسيين، فإن الحزب الجمهوري تطور منذ الثمانينيات في اتجاه محافظ ثقافياً واجتماعياً (مع اتساع قاعدته الدينية) بينما تطور الحزب الديمقراطي في اتجاه ليبرالي اجتماعي وحقوقي بتبنيه مطالب الجماعات القومية والجندرية واتساع قاعدته في أوساط الأقليات الأفريقية واللاتينية. وإذا كان الرئيس السابق باراك أوباما قد حافظ إجمالا على التوازنات الكبرى داخل الحزب الديمقراطي، فإنه كان أقرب إلى التيار الديمقراطي الجديد الذي يمثله حالياً بيرني ساندرز واليزابت وارن والكسندريا كورتز. وفي كتابه «السابقة الواحدة والمستقبل الليبرالي» (2017)، يبين الباحث الأميركي «مارك ليلا» أن الحزب الديمقراطي انتقل من فكرة المجال العمومي إلى خط الدفاع عن الهويات الخصوصية، بما يعني توسيع دائرة التسامح قانونياً واجتماعياً ودمج المجموعات المغبونة في السردية القومية. وإذا كان الهدفان تحققا إلى حد كبير، فإن النتيجة السلبية لهذا التحول هي تقويض الجانب الشمولي الجامع في الفكرة الليبرالية (مبدأ الحقوق المتساوية الأصلية) واستبداله بمنطق الليبرالية التعددية التي بلورها فلسفياً مفكرو «النزعة الجماعاتية» في تصورهم لحرية مندمجة في الكيانات الانتمائية وممثلة في الهياكل المؤسسية العمومية والأهلية (التعددية الثقافية الليبرالية وفق إصطلاح مايكل ساندل). يمثل ساندرز الخط الذي يُدعى في الأدبيات الأميركية الراهنة بالليبرالية الراديكالية، رغم أن برنامجه الانتخابي لا يختلف في شيء عن برامج أحزاب الوسط الليبرالي في أوروبا، وهو نفسه يدعي وراثة الزعيم الديمقراطي روزفلت والتأثر بالتجربة السويدية القائمة على معيار الرفاهية الاجتماعية. إلا أن هذا الخط الذي يبدو من استطلاعات الرأي أن 64? من القاعدة «الديمقراطية» تؤيده، يظل عاجزاً عن استقطاب القوة الناخبة الأميركية الحاسمة، ومن هنا تصاعد حظوظ مرشح التوازنات التقليدية جو بايدن الذي تدل مؤشرات قوية على أنه سينافس الرئيس الحالي دونالد ترامب في الاستحقاقات القادمة. *نقلاً عن صحيفة "الاتحاد"
مشاركة :