في الثلاثين من نوفمبر العام 1971، قدّمت الإمارات أول شهدائها مهراً لقيام دولة الاتحاد التي بناها أبناؤها ببذل الغالي والنّفيس، ففي معركة طنب الكبرى ضد القوات الإيرانية التي سعت لعرقلة التوقيع على وثيقة الاتحاد، استشهد «سالم سهيل خميس» دفاعاً عن الحلم الوليد في تلك اللحظات ليسطّر بدمائه الزكية ميلاد هذا الوطن العظيم، ويثبت بالتجربة العملية أن الأوطان العظيمة تبنيها تضحيات أبنائها. ورغم المعوقات الكبيرة التي واجهت المؤسسين طيّب الله ثراهم، فإن الإرادة غلبت التعويق، وقامت الدولة التي بدأت بناء جيشها بفلسفة واضحة تجلّت في حكمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والذي أعلنها بوضوح في قوله «إن الثروة ليست ثروة المال بل هي ثروة الرجال، فهم القوة الحقيقية التي نعتز بها، وإن جيش الإمارات هو درعها الواقي للحفاظ على التراب الوطني وصيانة الأرواح وحماية ثروة هذا البلد وهو أيضاً لمساندة الأشقاء إذا احتاجوا إلينا». من هذه الفلسفة انطلقت المسيرة الظافرة التي سجّلت سطوراً ناصعة على صفحات التاريخ، فشهداء الدولة لم يكونوا من العسكريين فحسب، ولكن أبناء الإمارات (مدنيين وعسكريين) كانوا يدركون عظم الرسالة التي قامت على أساسها، فقد قدّم الشهداء سيف غباش وخليفة مبارك وطارق الشحي ومحمد خالد، أرواحهم فداء لقضايا أمتهم العربية، كما قدّم جنودنا الأوفياء في معارك إعادة الشرعية ونصرة المجتمع اليمني الشقيق أرواحهم للوقوف مع الأشقاء ولقضايا الأمة المصيرية. فالإمارات آمنت بالقضايا القومية منذ تأسيسها، ولعبت دوراً هاماً ومحورياً في حرب العرب ضدّ إسرائيل عندما نادت بأن الدم العربي أغلى من النفط، وقامت بخطوة الأجيال تتباهى بها في كل موقع بالوطن العربي. أبناء الإمارات حين دخلت قوات صدام حسين إلى أراضي الكويت، تدافعوا من أجل إعادة الحق المغتصب لأهله، وعبر قوات درع الجزيرة سطّروا أروع الملاحم والبطولات، كما أن موقفهم المشرّف في البحرين الشقيقة شهد له استشهاد الملازم طارق الشحي، والمواقف لا تحصى ولا تعد. يوم الشهيد حقّ لدولة الإمارات إقراره، وسيظل نبراساً للأجيال الحالية واللاحقة، فكل شهيد يستحق الخلود، وستظل ذكراه يوم عز وفرح وفخر. فقرار صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، بتخصيص يوم 30 نوفمبر من كل عام يوماً للشهيد، لاقى ارتياحاً كبيراً في الشارع الإماراتي، وفاءً وعرفاناً بجميل الشهداء الذين يعيشون في وجدان الجميع. ردود الفعل السريعة فور إعلان يوم الشهيد دلت على مدى اعتزاز الجميع بعظمة شهدائهم، فقد تصدر الخبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائط النقل الإعلامي، وعلى الفور وجّه صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، بافتتاح ساحة ونصب تذكاري للشهداء في الشارقة، وتسمية الشارع الخلفي للمدينة الجامعية بشارع الشهداء على أن يتم الافتتاح في ذات اليوم الذي أقرّه صاحب السمو رئيس الدولة يوماً للشهيد. وحين تم إعلان الخدمة الوطنية تدافع أبناء الإمارات جميعهم بطريقة غير مسبوقة، وكان الشهيد محمد الريسي نموذجاً قوياً لرغبة الإماراتيين في خدمة الوطن، وعندما أعلنت الدولة انضمامها لتحالف الحزم لإعادة الشرعية في اليمن، تدافع أبناء الإمارات أيضاً للمشاركة، ولم يزدهم سقوط الشهداء إلا إصراراً ورغبة في الالتحاق بالمهمة التي هدفت لإعادة الحق لأصحابه وتحقيق الاستقرار في اليمن، ومثّلت مواقف أهالي الشهداء نموذجاً نادراً في المنطقة. يوم الشهيد سيبقى معلماً بارزاً من معالم النهضة الإماراتية، وستظل الدولة وفيّة لمبادئها وجيرانها وأمتها ما دامت الأرض تدور، وسيذكر العالم كله في الثلاثين من نوفمبر من كل عام، قصة هذا الشعب الذي عوّد الجميع على تفرّده في كل شيء. *د. سالم حميد* * كاتب إماراتي
مشاركة :