في مسيرة الروائية المصرية سلوى بكر (1949) أكثر من 20 كتاباً ما بين رواية ومجموعة قصصية، ومسرحية، حصلت على جائزة دويتشه فيله الألمانية عام 1993، وترجمت كتبها إلى تسع لغات. بكر مشغولة بكل ما هو هامشي ومستبعد، «فالمسكوت عنه هو ما يستوقفني ويستفزني للكتابة»، بخاصة الكتابة الروائية التي ترى أنها «أحد أهم طرق الوصول إلى الحقيقة؛ لأنها تستبصر ما لا يمكن استبصاره بوسائل أخرى». في روايتها «شوق المستهام» الصادرة أخيراً ضمن سلسلة «روايات الأهرام» القاهرية تنطلق من واقعة اطلاع كاتب مجهول على بردية قبطية تُعرف باسم (بردية زويجا) تضم معارف طبية، ومن خلال ملابسات تلك الواقعة، يتساءل الراوي، عن أسباب القطيعة مع ماضي مصر الحضاري. > الزمن الروائي في «شوق المستهام» يدور في القرن التاسع الميلادي، لماذا وقع اختيارك على هذه الفترة الزمنية؟ - القرن التاسع هو قرن بالغ الأهمية، فضلاً عن أنه غامض وملتبس، فالفكر الإنساني بدأ تحولاته الكبرى في هذا القرن. عموماً أنا لم أختره، هو الذي اختار روايتي التي تتحدث عن رحلة الراهب أمونيوس بحثاً عن علاج لوباء انتشر في مصر عبر الاطلاع على صحف وبرديات محفوظة في أديرة ومعابد. > الرواية تنطلق من عبارة يصفها السارد بأنها «بالغة الأهمية»... كيف؟ - كنت أقرأ عن الطب المصري القديم، والطب القبطي، ووقعت على عبارة كتبها الراهب أمونيوس أظنها بالغة الأهمية، فبسببها كتبتُ «شوق المستهام». يقول الراهب أمونيوس: «ذهبت إلى معبد «أمحوتب» في مدينة منف واستأذنت الحرس أن أنسخ هذه البردية الطبية القديمة»، يقصد بردية «زويجا»، وهذا أمر استوقفني كثيراً. السؤال الذي تطرحه الرواية، ماذا جرى للمعابد الفرعونية بعد أن دخلت الدولة الرومانية في المسيحية، وبعد قرار إغلاقها عام 531م؟ ماذا حدث خلال 100 عام؟ وتحاول أن تعيد تجسيد هذا المناخ مرة أخرى وتبحث عن الأسئلة التي أفرزها هذا المناخ وبعضها أسئلة غير صحيحة مثل: القول أن العرب هم المسؤولون عن تدمير الحضارة واللغة المصرية القديمة، السؤال الأهم، لماذا تم تجاهل جوانب من التراث العلمي والفلسفي لحضارة مصر، وهنا ينبغي علينا أن نستدعي ما طرحه الأميركي جورج جي. إم. جيمس في كتابه «التراث المسروق... الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة»، في أن بعض فلاسفة اليونان مثل أرسطو وفيثاغورس سرقوا من المعابد المصرية كثيراً من المعارف والعلوم ونسبوها لأنفسهم. > الرحلة التي قطعها الراهب أمونيوس سعياً وراء المعرفة، هل ما زالت قائمة؟ - مصر مليئة بعشرات المعابد التي كانت قائمة حتى فترة قريبة. أمونيوس ارتحل إلى هذه المعابد، ومنها معبد «سمنود» المختص بالتاريخ، ومعبد «عين شمس» المختص بالفلسفة، ومعبد «منف» المختص بالطب، ومعبد «أخميم» المختص بالكيمياء والسحر، وغيرها من المعابد المختصة التي إن دلت فإنما تدل على أن هؤلاء الناس كانوا يعملون بجد واجتهاد، وأنهم أول من عرفوا العلوم المختصة. الرغبة في المعرفة مرهونة بالوجود الإنساني، والحضارة إنما نشأت نتاجاً لفكرة الرغبة في المعرفة. بروميثيوس، سرق النار الإلهية رغبة في المعرفة، فالرغبة في المعرفة موجودة دائماً، لكن أحياناً البيئة والسياقات المحيطة تخمدها. > هل تعتقدين بوجود دور للأدب؟ - هناك عبارة للشاعر الفرنسي بول كلودل «آه لو عرف الناس ضرورة الشعر». أنا لا أتحدث عن وظيفة للأدب، بل عن ضرورة للأدب. الأدب هو معيار مدى المعرفة الإنسانية في معناها الأعمق والأشمل لأنه ينظر إلى الظواهر الإنسانية من شتى جوانبها، ويسعى لأن يراها رؤية غير أحادية. المسألة الأهم تتمثل في أن الأدب - الآن أكثر مما كان في أي وقت - من أهم أدوات تغيير الوعي الإنساني. الأدب الجيد يساهم في تغيير رؤيتك لذاتك وللأشياء وللعلاقات الإنسانية والعالم ككل. هذا هو دور الأدب. أنا هنا لا أتحدث عن وظيفة تعليمية أو تربوية للأدب، لكن وظيفة معرفية، ليس بالمعنى المعلوماتي، ولكن بالمعنى الفلسفي للمعرفة. > ماذا تقصدين بالأدب الجيد؟ - هو الأدب الذي يطرح أسئلة، أو ينتج خطابات تطرح أسئلة، مثل أدب شكسبير والتراجيديا اليونانية، وغيرها. > النص الروائي يتضمن مفردات وتراكيب لغوية جديدة، كيف تنظرين إلى وظيفة اللغة؟ - أنا من الذين يتعاملون بحساسية شديدة مع اللغة، وكيفية توظيفها داخل النص. اللغة ليست أداة توصيل، وليست وظيفة تجميلية أو زخرفية، فهي أولاً وأخيراً وظيفة جمالية، عندما أرتكز على وظيفة اللغة في النص الأدبي أشبه الأمر بمستودع الألوان التي يستخدمها الفنان التشكيلي، فاللغة ترسم الشخصية التي تعبر عن عوالمها، تحدد مواقعها داخل هذه العوالم، وتحدد مرجعياتها ومستوياتها المعرفية، والجعرافية المكانية أو المجال المكاني للشخوص. > في مواجهة متغيرات دائمة ولا حصر لها، كيف يتعامل الأدب مع اللغة كبنية تتجدد دوماً؟ - لدينا مشكلة خطيرة هي تراجع اللغة البلاغية المستخدمة على ألسنة الناس بسسب الإعلام الذي يقدم لغة فقيرة للغاية، هدفها الأساسي توصيل المعلومة أو الخبر. لكن، وعلى جانب آخر يقوم الإعلام بوظيفة على المستوى اللغوي أظنها مفيدة، هي إلغاء الحواجز بين العاميات من خلال لغة عربية معاصرة وميسرة. على الأدب أن ينتبه إلى أن اللغة تتجدد دوماً، وما يجرى على ألسنة الناس من لغة إنما هو نتيجة المتغيرات الدائمة في أسلوب حياتهم، المفردات التي يتداولها الشباب إنما هي تحدث دلالات لغوية جديدة لمفردات قاموسية، وهو ما يجب أن ينتبه إليه من يكتب الأدب. > «كوكو سودان كباشي» أحد عناوين رواياتك التي تتسم غالبيتها بالغرابة. كيف تنظرين إلى وظيفة العنوان؟ وهل دافعك في اختياره الضرورة الفنية أم متطلبات الترويج؟ - العنوان الأفضل - بعيداً من التوصيف العلمي الأكاديمي - هو الذي يستطيع تكثيف الخطاب الروائي وتلخيصه ودفع القارئ في اتجاه هذا الخطاب. عنوان «كوكو سودان كباشي»، وهو اسم بطل الرواية وأحد جنود الحملة المصرية على المكسيك، هو عنوان غريب وصادم للقارئ، لأن الخطاب الروائي وعبر الأحداث التي يتضمنها ينبه القارئ ويقول له: إياك أن ترتكن إلى وعيك التقليدي في قراءة التاريخ. > بعد مسيرة جاوزت الرُبع قرن، كيف يبدو الوعي بالكتابة وما تمثله؟ - الآن، أنا أخاف الكتابة أكثر مما مضى، فالإمساك بالقلم بات شيئاً مخيفاً، والوعي بدور الكتابة الأدبية وخطورة هذا الدور زاد إلى حد كبير، فمعرفة الحقيقة أصبحت أمراً معقداً للغاية، في ظل هيمنة إعلام مزيِّف على نحو غير مسبوق. > ما تفسيرك لهذا الإنتاج الأدبي الكمي المتزايد، بخاصة في مجال الرواية؟ - الكتابة الأدبية أصبحت أحد أهم طرق الوصول إلى الحقيقة المتعلقة بالحاضر وبالماضي أيضاً، والرواية كجنس أدبي لديها أدوات متباينة لديها الحس والحدس ولديها القدرة على التشوف وملء الفراغات المطموسة والمتعلقة بالحقيقة، لديها القدرة أن تستبصر ما لا يمكن استبصاره بطرائق أخرى معتادة كالكتابة الصحافية والتأريخ، لديها مساحات وفضاءات تتيح لها أن تقدم منظوراً أفضل لحقيقة من حقائق حياتنا التي في معظمها لا نعرف عنها إلا القليل. > هل تعتقدين بصحة القول أن الكتابة الروائية عن التاريخ هي تاريخ محتمل؟ - نعم، لأنه يفتح وعينا على أسئلة بلا حدود، الكتابة الروائية تهز اليقين المتعلق بالروايات التاريحية السابقة، ومن هنا تأتي قوتها في أنها تمتلك التخييل الذي لا يمتلكه المؤرخ. > لكن المساحات بين التخييل وما حدث في الواقع ملتبسة وأحياناً يصعب على المبدع تحقيق التوازن المطلوب؟ - هي بالفعل ملتبسة وتستدعي نوعاً من التوازن بين التخييل الروائي والمادة التاريخية المعطاة. تستدعي أن يشتبك ما هو روائي فني بما هو استاتيكي جامد «معلومة تاريخية»، هذا التعقيد يجعلنا في النهاية نقول أن الكتابة عن التاريخ تعني إعادة إنتاج أسئلة تتعلق بالتاريخ وهي مغايرة تماماً عما يسمى إعادة سرد المرويات التاريخية. > أنت مشغولة بالتاريخ المهمش والمستبعد، ما الإشكاليات التي تواجه الروائي في سرده التاريخي والأدوات التي تمكنه من تحقيق هدفه؟ - التاريخ يحيط بطلاسم من السرديات. هذه السرديات بعضها يناقض بعضاً. الرواية التاريخية لديها مادة منجمية خام، وتجديد الأسئلة التاريخية يحيلنا إلى إشكاليات المسكوت عنه تاريخياً. العلاقة بين المتون والهوامش، بين الرئيسي والثانوي. الأخطر هو خلط الرواية التاريخية بالميثولوجي. كيف تجنبين ما هو ميثولوجي عما هو غير ميثولوجي. العلاقة ما بين التاريخ المدون وغير المدون، أيضاً هناك مسألة أخرى مهمة تتعلق بالتفسير والتأويل اللغوي للروايات التاريخية، فالمؤرخ قد يستخدم لغة قابلة للتفسير والتأويل، بخاصة عندما يكتب التاريخ بعد انقضاء فترة طويلة. الإشكالية الكبرى تتمثل في العلاقة بين التاريخ والجعرافيا، فأنت تجدين في المرويات التاريخية إشارة إلى جغرافيا تغيرت، أو لم تعد موجودة. كيف تتعاملين مع مكان يصعب تمثله في السرد الروائي؟ هذه إشكاليات تواجهك إذا كنت معنية بالتاريخ المهمش والمسكوت عنه. هي إشكاليات تضع أعباء على الرواية التاريخية وتجعل الكاتب يبذل جهداً كبيراً حتى يكتب عملاً بمقومات الرواية المتعارف عليها. > الانتقائية التي تمارسها الذاكرة البشرية سواء عن قصد أو غير قصد. كيف تواجه الرواية التاريخية هذا المأزق؟ - المرويات التاريخية انتقائية، مثلاً عندما انتحرت كليوباترا عرفنا قصة انتحارها بالسم، لكن هل عرفنا شيئاً عن الجواري والعبيد الذين كانوا معها آنذاك، من هم، ماذا فعلوا، وكيف كانت ردود أفعالهم؟ التاريخ كله انتقائي، لكن ما يعني الروائي في سرده التاريخي هو أن يكون الهدف إعادة إنتاج خطاب تاريخي مغاير، خطاب يتساءل عن المرويات التاريخية الصادقة، انتقاء الروائي من التاريخ يسمو عن الانتقاء التوصيفي للمؤرخ إلى انتقاء يهدف استبيان ما غاب في الماضي ليخدم الحاضر والمستقبل، وليعيد النظر في الدروس المستفادة من المرويات التاريخية. > عملتِ فترة ناقدة للأفلام والمسرحيات. هل يواكب النقد المنجز الإبداعي؟ - تلك مشكلة معقدة. أولاً، الإنتاج في مجال القصة والرواية كبير جداً، إلى حد التخمة. ثانياً، لا توجد مطبوعات كافية لنشر النقد الأدبي. ثالثاً، إذا اجتهد الناقد، فإنه لا يجد مقابلاً مادياً يعادل الجهد الذي يبذله. > مجلة «الرواية» التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، أين هي من المشهد الروائي الحالي؟ - هي لا تستوعب ولا تواكب المنجز الروائي، فثمة مصالح وحسابات تدار من خلالها الأمور، والأجواء التي تهيمن على الحياة الثقافية وما يسودها من فساد تلقي بظلالها على ما هو مكتوب حول النصوص الإبداعية. > الجائزة الأدبية، ذلك الحافز المعنوي والمادي، لماذا ابتعدت عنكِ؟ - لم أحصل على جائزة أدبية طيلة مسيرتي مع الكتابة. الجائزة الوحيدة التي حصلت عليها جائزة الإذاعة الألمانية. حتى هذه الجائزة لم أتقدم لها بنفسي. الذي رشحني لها هو فوزي سليمان. أكره الصراعات. أحياناً أبدو مقاتلة شرسة، لكن في القضايا العامة، وليس في الأمور الشخصية. مسألة الجوائز الأدبية جزء منها أنني لا أتقدم، والجزء الثاني أن معايير الجوائز في العالم العربي الفيصل فيها ليس الإبداع، كلما مر الزمن نسيتُ قصة الجوائز، لأنها لا تشغلني، ولأني، حتى الآن، أعتبر نفسي كاتبة هاوية، أكتب عندما أرغب في الكتابة، فأنا مواطنة وامرأة عادية، أمارس حياتي مثل أي امرأة بلا ملامح في مصر والعالم العربي كله. امرأة تستمتع بالكتابة ولا تنظر إلى نفسها بصفتها كاتبة أو مثقفة.
مشاركة :