ينصب تعريف مفهوم الخطاب الديني في كثير من المدارس الفقهية على البعد البشري للخطاب، إذ إن مصطلح الخطاب الديني وفق رؤيتهم يشير في كل الأحوال إلى «الآراء والأفكار والتفسيرات والتأويلات التي يصوغها البشر حول دينهم، نتيجة اتفاقهم أو اختلافهم في كيفية فهمهم لنصوصه المقدسة، ومن ثم استنباطهم الآراء والأحكام وما ينتسب إلى عقولهم بحكم بشريتها للإصابة والخطأ، ومن هنا يبرز الفرق بين الخطاب السقراطي والأفلاطوني المنحصر في التوجه الفكري المجرد، المتسم بالتعالي، ليدل على خطاب قيمي متوجه إلى الناس كافة على مختلف مستوياتهم وعصورهم، حيث يتسم بالعالمية، كما يتسم بالجمع بين مثال القيمة، وواقع الحياة الحضارية في بعدها الإنساني، كما يرى آخرون أنه «البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس، مسلمين أو غير مسلمين لدعوتهم إلى الإسلام وتعليمه لهم، وتربيتهم عليه عقيدةً أو شريعةً، عبادةً أو معاملةً، فكرًا أو سلوكًا، أو لشرح موقف الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم، فردية أو جماعية، نظرية أو علمية، الذي يتمحور مضمونه حول الإسلام، بيانًا أو عرضًا له، وتحليلاً أو نقدًا لنصوصه، ودعوةً إليه أو صدًا عنه، سواء كان ذلك في المجال الفقهي أو العقائدي أو الفكري، من هذا المنطلق صدر حديثا عن مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات العربية المتحدة دراسة حديثة للباحثين د. وجدان جاسم فهد وخالد فياض حيث ذهبت الدراسة إلى ضرورة أن يتسم الخطاب الديني بالسعة والشمول، بقدر سعة الإسلام وشموله، فهو يشمل الفرد بجسمه، وعقله، وروحه، ووجدانه، ويشمل الأسرة بمعناها الواسع بعلاقاتها الزوجية، والأبوية والتراحمية، ويشمل المجتمع بكل طبقاته وتكويناته الدينية، والعرقية، واللغوية، وقضاياه، «ولا عزل للخطاب الديني -كما رأت الدراسة- عن الحديث في الشؤون السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحوار الحضارات، وحقوق الإنسان، ومن ثَّم كان لزامًا أن يتناول الخطاب الديني كل هذه الأمور والقضايا، وإعلان رأى توجه الدين بشأنها، أي أن الخطاب الديني - طبقا لهذا الاتجاه- يكون بمثابة الضابط الأخلاقي، والروحي لقضايا السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وليس وسيلة يستخدمها الخطاب السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي لتحقيق مآربه. ولمّا كان الخطاب الديني هو خطاب بشري يتعلق بفهم نصوص الشريعة ومرادها، فهو يتأثر بالمرجعية الفكرية والثقافية، مما تدعو الحاجة المستمرة إلى ضرورة مراجعة العلاقة بين الإنسان والنص المقدس، ولعل أبرز من نادى بذلك الفيلسوف «ابن رشد»، فالنص المقدس لا تنكشف حقيقته إلا بالعقل، وفي حال تناقض ظاهر النص مع العقل، وجب الأخذ بما يقتضيه العقل من دون نيل من الجوهر الديني. وطالما أن الخطاب الديني هو اجتهادات علماء الدين في غير الثوابت التي تتلاءم مع مستجدات كل من الواقع والمعرفة، والتي تصل مشافهةً، أو مسجلة، أو مكتوبة، إلى الجمهور فتكسبه القدرة على مواجهة متغيرات العصر، وعلى التعامل معها بالكفاءة المطلوبة، فإن الحاجة تدعو إلى تطوير وتجديد هذا الخطاب بما يتناسب مع مقتضيات العصر، بما فيه من قضايا وأفكار وتوجهات بمختلف ألوانها وأنواعها سياسية واقتصادية وفكرية ودينية واجتماعية، لأن تجديد الخطاب الديني هو صورة من صور الإبداع، والتحسين، والإجادة، والتوليد المتواصل للأفكار والأساليب والأطر الشكلية التي تحمل المضمون ذاته، ويرتقي من مستوى الأداء التقليدي إلى مستوى الإبداع فيه لغةً وأفكارًا وأساليب اتصال وإقناعا. ولكن الخطاب الديني المعاصر يعاني من العديد من الأزمات تنبع جميعها من أزمة التجديد وتقليدية الخطاب وبعده عن الواقع العملي ما فرض على الجميع مسلمين وغير مسلمين ضرورة التعامل معه تارة بالتحديث والتطوير، وتارة ثانية بالإقصاء والاستبعاد، وتارة ثالثة بالاشتباك الحواري المتدرج، وهي أنواع من التقاربات أفرزت بعضها صدامات بين السلطة السياسية أحيانا وبين المجتمع حينا آخر، وقد شهدنا ظهور ما عرف لاحقا باسم ظاهرة الإسلاموفوبيا والتي انتشرت على وجه الخصوص في الغرب وأدت إلى قدر كبير من الحساسية الاجتماعية في التعامل مع كل ما هو إسلامي في بعض المجتمعات. إن ما يحدث في عالم اليوم هو نتاج أحقاب زمنية طويلة من التراخي في أمور تجديد الخطاب الديني ما أفرز أجيالا فيها أناس مغيبون بشكل كامل عن الثقافة الإسلامية أو المندمجون معها في شكلها الظاهري النصي وخاصة في جزئها الحركي والمتمثل في الحركات السياسية الإسلامية التي اصطدمت بالسلطة السياسية في مجتمعاتها، وأدت إلى ما أدت في تلك الدول. وتطالب الدراسة بضرورة وجود عقل آخر ينظر إلى الدين نظرة تعاونية تعايشية تكاملية غير صدامية أصبحت ضرورة تقتضي من القائمين على ذلك الخطاب ضرورة إحداث ثورة حقيقية في تجديده، ثورة تسمح للجميع أن يشترك في حوار موسع مستدام ومتواصل حول ضرورة الفصل بين ما هو عقلي وما هو نقلي، وبين ما هو مقدس إلهي وما هو عقيدي بشري اجتهادي، على أن يكون هذا الحوار منفتحًا على كل الآراء والأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من دون إقصاء أو تخوين أو تسفيه، تحت الرعاية والحماية الكاملة للدولة المدنية الحديثة القوية والمتماسكة من دون تفريط في أركانها أو تعديل في قيمها، وبإيمان كامل أن إدارة الحوار وبداياته تقتضي قدرا من الحرفية في التعامل مع أقطابه ومختلفيه بشكل استيعابي احتوائي يؤمن بأن الجميع جزء من وطن واحد يؤمنون به ويتعايشون معه بعيدا عن تلك الجماعات الموصوفة بالعنف والتي ترى فيه الوسيلة والهدف لإقامة دولتها المتخيلة. { خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات - دولة الإمارات
مشاركة :