إن كنت تريد أن تعرف معنى كلمة «انبرى»، فما عليك إلاَّ كتابة كلمات بسيطة على جدار تويتر، تذكر فيها اسم أردوغان، وسترى أن المعنى المعجمي لكلمة «انبرى» الذي اقتصر على «وقف في وجهه للرد والدفاع»، هو جزء من المعنى الأصيل. حين يرى أحد من عشاق أردوغان اسمه في جملة، يدخل كالقلم في مبراة الغضب، حيث يجري نحت أظافره، ولسانه، وعقله لتصبح كل أسلحته الدفاعية حادّة وجارحة، فينبري لك منافحًا وممتعضًا. هذا «الانبراء» لا تعرّفه المعاجم اللغوية التي عجزت عن وصف تلك الاستدارة المحتدة، ولا التهيؤ الغاضب للتصدّي، ولا الاحتشاد العنيف للدحر. تقوم قاعدة «الانبراء» على العشق المتوقّد لشخص أردوغان، وهو عشق مندفع، ومن طرف واحد، ولو أنّك سألت عاشقًا من عشاقه عن سبب هذا الوله الشديد، لأجابك بأنّه جعل تركيا دولةً محترمةً عالميًّا، وقائدةً اقتصاديًّا تقارعُ الدول الغنية، بعد أن كانت دولةً منهكةً اقتصاديًّا. رائع.. هذا مثيرٌ للإعجاب، وقد مررنا بهذا النوع من الإعجاب حين كان مهاتير محمد هو نجم الكفاح والنجاح الإسلامي، لكن وضع العشق الحالي هو ما يثير التعجّب. قاعدة أخرى لهذا العشق هي ضرورة الاحتفاء والتهليل بكل خطوة يتّخذها أردوغان في بلاده، خاصة حين يفوز هو أو حزبه في الانتخابات المحلية، أيّ أن فوزه شأن تركي خاص لا ناقة لنا فيه ولا جمل، لكن الجماهير العاشقة تُصفِّق طربًا وتنتشي حُبًّا، وتعتبر فوزه نجاحًا لها، فتباهي به وتتفاخر، وتتخيّل أنها تغيظ بذلك كلَّ مَن لا يعشقه. يخدم بلده، يطبِّلون، يفوز بمنصب في حكومته، يطبِّلون، وتسألهم: ما شأنكم؟ يردُّون: رجل عظيم يقود تركيا نحو التطوّر، والتنمية، والرفاهية!! أمّا قاعدة الترويج المستمر لشخص الرمز التركي، فتضفي عليه صفات التعظيم والتبجيل، فهو قائد ذو أهداف نبيلة، وهو زعيم محنّك ملأ الدنيا عدلاً وحكمةً، وهو رجل المواقف الذي ينتصر للضعفاء، ويقف إلى جانب البسطاء، كل هذا لأنه استطاع أن يحقِّق إنجازات عظيمة، وخطوات ملموسة، أين يا سادة يا كرام؟ في تركيا طبعًا. لكن تفخيم أردوغان لا يتوانى عن سبغه بسمات أصحاب الكرامات الأخيار، حتى أنّه حين هبط على رأسه طائر، تسابقوا في تفسير ذلك على أنه من بركاته، ودليل قوة إيمانه، وبذلك يتعالى عشق أردوغان لدرجة الاشتراط الإيماني، كما قال خالد السيف في مقاله: (حبّ أردوغان من الإيمان). وقاعدة أخرى هي حتمية النظر إلى أردوغان بعين واحدة، وإغلاق الأخرى، فهذا القائد المنزَّه يدير بلدًا علمانيًّا به كل مظاهر الحرية الفردية، بلد يجير الاختلاط، والسفور، والمراقص، والبارات، والسينمات، وشواطئ العراة، وزواج المثليين، ولا يوجد به أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، وحين تجابه العشاق بما يستنكرون، تجدهم يغالطون ويبررون، ثم ينبرون قائلين: «من جانب آخر ساهم أردوغان في بناء دولته اقتصاديًّا وسياسيًّا، وارتقى بحياة المواطن التركي، وجعل اسطنبول وجهةً دوليَّةً»! وتستفسر: ما شأننا؟، فيولول العاشق متحسِّرًا: «من أين لنا بأردوغان عربيّ أصيل»؟! والقاعدة الأخطر، وربما المفسّرة لكل ما سبق، هي التلويح بحلم الخلافة العثمانية البائدة، والإيحاء الشفَّاف بشخص الخليفة المنتظر المطابق لهذا المعشوق المبجل. ذاكرة العرب ما زالت تستبطن تلك القرون المظلمة، التي اقتُصّت من تاريخهم، وتم فيها دفنهم خارج الوعي الزمانيّ، وحلم العودة الرقيق الذي يداعب المخيّلات الضحلة، هو في الواقع كابوس هذه الأمة.
مشاركة :