في وقت يحاول مجلس السيادة البحث عن حلول للأزمة السياسية التي يمر بها السودان تجددت الاشتباكات في إقليم دارفور بما فرض اتخاذ تدابير عسكرية لمنع انفلات الأوضاع في منطقة شهدت اضطرابا لا يزال شبحه عالقا في أذهان كثيرين. وأصدر مجلس السيادة الانتقالي الجمعة توجيهات صارمة لحكومة ولاية جنوب دارفور ولجنة أمن الولاية بحسم الاعتداءات القبلية عسكريا والضرب بيد من حديد على كل من يتجاوز القانون، والعمل على تفريق ومنع التجمعات القبلية وتطبيق قانون الطوارئ فورا لحسم الصراعات القبلية، في محاولة لإظهار القبضة الحديدية للدولة. وأكدت لجنة الأمن أن طيرانا عسكريا وصل بالفعل إلى مناطق القتال القبلي بين قبيلتي الرزيقات والفلاتة جنوب مدينة نيالا. تماضر الطيب: المشاكل في دارفور لم يتم حلها من الجهات الأمنية ويشير هذا الخطاب إلى أن السلطات السودانية لا تريد أن تجد نفسها أمام أزمة جديدة تنفجر في وجهها تنكأ جراحا وتؤدي إلى عودة التدخلات الخارجية بقوة في شؤون البلاد، وأن عملية السلام التي خطت خطوات كبيرة الفترة الماضية تعاني من أمراض مزمنة. وتحاول كبح جماح العنف القبلي في إقليم دارفور قبل أن تتورط فيه حركات مسلحة وقعّت على اتفاقية جوبا للسلام وتصبح الأوضاع عصية على التعامل معها وتفجر مشكلات في غنى عنها وخلافات تحاول بعض الأطراف القفز عليها. وقتل نحو 45 شخصا وأصيب العشرات من الأشخاص في اشتباكات قبلية يومي الثلاثاء والأربعاء بين قبيلة الفلاتة الأفريقية وقبيلة الرزيقات العربية في قرى قريبة من نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، في موجة عنف جديدة يمكن أن تخلط الأوراق. وأخفق مجلس السيادة في إنزال الترتيبات الأمنية التي تضمنها اتفاق السلام الموقع في أكتوبر 2020 على الأرض، وعطّل التباين الحاصل بين القوى السودانية الكثير من التحركات التي جرى الاتفاق عليها بشأن وضع حد للاشتباكات المتكررة. في كل مرة يطفو العنف في دارفور يستدعي المجلس مخزونه السياسي من المبررات والمعالجات دون الاقتراب من السبب الحقيقي بوجود فجوة بين المؤسسة العسكرية والحركات المسلحة المتمركزة في الإقليم وقوات الدعم السريع التي لها اليد الطولى. يرجع تعامل مجلس السيادة بحسم كبير هذه المرة إلى عدم وجود حكومة مدنية تستطيع محاسبته وفرملة تحركاته وممارسة ضغوط تجبره على التخلي عن أيّ ميول لاستخدام الصرامة التي يمكن أن يسرف فيها كنوع من تأكيد حضوره الأمني. ويقول مراقبون إن التعليمات المشددة في التعامل مع الاشتباكات الأخيرة يؤكد أن قوات الأمن عازمة على المضي في الخشونة إلى أبعد مدى خوفا من حدوث تطورات تعيق حركتها أو يوحي تراخيها بتحريض جهات على العودة إلى بؤرة دارفور. ويضيف المراقبون أن التّمادي في الخشونة يمكن أن يفضي إلى لفت انتباه قوى دولية لتصفية حساباتها مع الخرطوم من هذه الثغرة وتتخذ من دارفور تكئة سياسية للضغط عليها واستدعاء خبرات سابقة وقاموس حافل يتعلق بجرائم الحرب والإبادة الإنسانية. وهدّد رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بطرد المبعوث الخاص للأمم المتحدة متهما إياه بتجاوز صلاحيات تفويضه. وقال البرهان في كلمة ألقاها خلال حفل تخرج عسكري الجمعة “نحن نرى تطاوله بالأمس يتحدث ويكذب” في إشارة إلى الممثل الخاص للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس. وأضاف “نحن نقول له إذا تجاوزت التفويض سنخرجك خارج السودان”. توجيهات صارمة لحسم الاعتداءات القبلية عسكريا توجيهات صارمة لحسم الاعتداءات القبلية عسكريا وأوضح “نحن نقول هل أنت عندك تفويض محدد… لكن أن تكذب وتتولى إمارة أو إدارة الشعب السوداني سنطردك”. تنذر الأحداث التي وقعت أخيرا بتسليط الضوء على الاحتقانات في دارفور التي تراكمت دون أن تجد حلولا ناجعة لها وسط حسابات متعارضة بين القوى الأمنية والسياسية في الإقليم وبين أصحاب المصلحة، فلا تزال عمليات التعويض وعودة المهجرين للديار التي تم الاتفاق على حلها والتفاهم حول آليات ذلك بلا تسوية حقيقية. وقالت الباحثة السودانية تماضر الطيب لـ”العرب” إن المشاكل الرئيسية في دارفور لم يتم حلها من قبل الجهات الأمنية والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، ولم يسهم تعيين حاكم للإقليم ينحدر منه، وهو مني أركو ميناوي، في إحداث التغيير المطلوب، وتعمقت الاشتباكات عقب الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي. وأضافت أن الجيش تحدث عن تشكيل قوات مشتركة لكبح تجدد الاشتباكات القبلية بلا جدوى، وهناك أزمات عميقة بين الحركات المسلحة والمواطنين تحتاج إلى إرادة قوية لحلها، لأنها متشابكة وتلعب بعض القوى في تغذيتها فتفاقمت الأوضاع، بما جعل التوتر مستمرا وشبح الاقتتال القبلي لا يتوقّف. وقتل أكثر من 250 شخصاً في دارفور منذ انقلاب البرهان على شركائه المدنيين بالسلطة، وهي دلالة على عمق الفراغ الأمني عقب انتهاء مهمّة قوات حفظ السلام الأممية بدارفور في يناير العام الماضي وحصر دور البعثة الأممية في المهام السياسية بدلا من العسكرية. السلطات السودانية لا تريد أن تجد نفسها أمام أزمة جديدة تنفجر في وجهها تنكأ جراحا وتؤدي إلى عودة التدخلات الخارجية بقوة في شؤون البلاد وحذّر متابعون من خطورة إنهاء المهمة العسكرية للأمم المتحدة قبل أن تنضج عملية السلام في السودان، ويتم تنفيذ الترتيبات الأمنية المتفق عليها كاملة في دارفور، ففي ظل المصالح المتفاوتة بين الفصائل المختلفة وعدم نزع سلاحها يصعب الحديث عن استقرار الأمن في الإقليم. وأصدر مجلس الأمن الدولي في يونيو 2020 قرارا بإنشاء بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة الانتقال في السودان (يونيتامس) استجابة لطلب الحكومة التي كان يرأسها عبدالله حمدوك في ذلك الوقت. ولدى مجلس السيادة هواجس من أن عدم ضبط الحدود مع تشاد بصورة جيدة سوف يظل سببا لتجدد العنف من حين إلى آخر، والذي يتعدى تفسيره نزاعا تقليديا بين قبيلة عربية وأخرى أفريقية أو العكس، حيث يؤدي التداخل الجغرافي مع تشاد لتفاقم الأزمة، وتقود السهولة التي تتحرك بها بعض الفصائل لصعوبة السيطرة على الحدود. وقام البرهان بزيارة مفاجئة إلى نجامينا الخميس بعد زيارته للقاهرة، بحث خلالها مع رئيس المجلس العسكري التشادي محمد إدريس ديبي الأوضاع الأمنية والإنسانية على حدود البلدين. وتنتشر قوات سودانية - تشادية مشتركة في حوالي 20 موقعا حدوديا بموجب اتفاقية أمنية لتحجيم حركة دخول وخروج الفصائل المسلحة على الجانبين وتأمين الحدود. ويعوّل السودان على الجارة تشاد في لعب دور إيجابي في عدم انحراف إقليم دارفور المضطرب إلى سيناريو صعب، بحكم الجوار الجغرافي والتداخل القبلي بين البلدين. وتجد تشاد مصلحة حيوية في زيادة التنسيق مع السودان في الوقت الراهن، حيث شرعت قيادتها في التجهيز لحلقة جديدة من حلقات السلام مع المعارضة برعاية قطرية، ومن مصلحتها تقويض حضور الحركات المسلحة على الحدود مع السودان.
مشاركة :