الإخوان يعودون إلى الواجهة في محاولة لاستثمار موجة الغلاء في الأسعار ومخلفات أزمة الحرب على روسيا. لكن هذه العودة لا تلقى اهتماما من المصريين ولا تزعج النظام الذي بات واثقا من أن الناس يعرفون وضعه وينحازون إليه، وأن التحريض على الثورات لن يفضي إلى نتيجة. تستغل جماعة الإخوان الزيادة المتصاعدة في أسعار السلع والخدمات والأزمات الاقتصادية المتلاحقة لشن المزيد من الانتقادات ضد النظام المصري وتحريض المواطنين على رفضه وإعادة تكرار سيمفونية نجحت في وقت سابق وظروف مختلفة أتت بنتائج تريدها الجماعة ومن يقفون خلفها. تتجاهل الجماعة عن عمد حجم التغيرات التي حدثت في الداخل المصري خلال العقد الأخير والتطورات المتعددة التي استفاد منها النظام الحاكم وتحاشيه لأخطاء قاتلة وقع فيها نظاما الرئيس الأسبق حسني مبارك والرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي، والتي جعلت البيئة مهيأة للثورة الشعبية على كليهما. كما أن موقف المصريين أنفسهم من فكرة الثورة فقد بريقه مع الإحباطات التي أصابتهم عقب المشاركة في ثورتين خلال أقل من ثلاث سنوات، وأدى ما شاهدوه من تدهور في بعض الدول لتفتيتها وصعوبة عودتها إلى ما كانت عليه من قبل. يتبنى الإخوان خطابا رومانسيا أكثر من اللازم في أمور جادة، ويريدون تحويل الأحلام إلى واقع بالعزف على سرديات سياسية واقتصادية واجتماعية تم تجاوزها بمراحل، فالغضب الناجم عن اشتداد الأزمات لا يعني استعداد الناس لتغيير النظام والانسياق وراء التحريض الذي يشنه إعلام الجماعة ويبث من تركيا أو غيرها. من يتابع ما يجري الترويج له يعتقد أن الثورة في مصر جاهزة وعلى وشك الانفجار واختمرت للدرجة التي يسهل تحديد موعدها، لكن من يشاهد ما جرى ويجري في مصر يعتقد أن ذلك من المستحيلات، ليس فقط لسوء التقديرات التي تلازم الإخوان، بل لأن الأوضاع تغيرت بصورة لا تجعل لفكرة الثورة مكانا على الأرض. ◄ السيناريوهات تتجاهل ما يتخذه النظام المصري من خطوات لحماية الفقراء، وتتجاهل أكثر أنهم لا يلتفتون إلى خطاب التحريض ◄ السيناريوهات تتجاهل ما يتخذه النظام المصري من خطوات لحماية الفقراء، وتتجاهل أكثر أنهم لا يلتفتون إلى خطاب التحريض تقاس الثورات في أي دولة بحجم الغضب الظاهر والمكتوم من الجماعة الحاكمة ومدى قوتها الشاملة وليس الأمنية فقط، ومواءمة الظروف الداخلية لتحرك المواطنين، ووجود إعلام ينقل نبض الناس بصدق بعيدا عن التوجهات الأيديولوجية التي يروج لها الإخوان، وقوى خارجية تتحول إلى لاعب رئيسي في الثورات العربية. تفتقر هذه المعادلة إلى الكثير من العوامل التي تجعل الثورة ممكنة بمصر، ولو كانت المشكلات الاقتصادية سببا لها لرأينا أكثر من نصف الكرة الأرضية يعوم على بحور من الثورات الخضراء والصفراء والحمراء، ولأن هذا العنصر أحد المحددات وليس كلها فمن الصعب الحديث عن تحوله إلى وسيلة ناجحة لتغذية الثورة في مصر. يؤكد تصاعد اهتمام إعلام الإخوان بالعزف على محدد الأزمات أن القائمين عليه لم يعرفوا بعد طبيعة الدولة المصرية التي على مدار تاريخها الحديث والمعاصر تعيش في خضم أزمات اقتصادية متتالية، تتراجع حينا وتتزايد أحيانا، من دون أن تصبح سببا رئيسيا للثورة حتى لو استخدمها البعض لتبرير تحركاتهم ضد النظام الحاكم. تمر مصر بثورات على فترات متباعدة وكأن هناك اتفاقا غير مكتوب تتوارثه الأجيال، وما حدث بين عامي 2011 و2013 استثناء لا يلغي القاعدة التي تقول إن الثورة تحتاج إلى عقود لاختمارها وتكون دوافعها واضحة والأجواء العامة مهيأة لتقبلها، وبين ثورة 1919 وثورة 1952 التالية عليها نحو ثلاثة وثلاثين عاما، وبين الأخيرة وثورة 2011 حوالي ستين عاما. كانت الثورة على الإخوان حتمية، وهو ما جعلها تحتاج إلى أقل من ثلاث سنوات لحدوثها لأن استمرار حكم المرشد لمدة طويلة كان كفيلا بأن يفقد الدولة هويتها وهيبتها، وهو اللغز الذي لم تفهمه الجماعة حتى الآن ولا تريد استيعاب تفاصيله، لذلك لن يجدي خطاب التحريض ولن تكون له الأصداء الإيجابية التي يتمناها الإخوان بعد تقليص أظافرهم الشعبية وتقويض أذرعهم الأمنية في الداخل. بصرف النظر عن الموقف من النظام المصري الحالي، مع أو ضد، فهو لم يفرط في هوية الدولة ويحافظ على تنوعها والموزاييك الجامع بين أطيافها ونجح في تفكيك وإعادة تركيب الكثير من المعادلات التي كانت سببا في النقمة على حكم مبارك. ما لم تدركه جماعة الإخوان أو تدركه وتتجاهل مدلولاته السياسية أن الشعب المصري إذا كان غاضبا من ارتفاع الأسعار والخدمات وغير راض عن كثير من أوضاعه فهو لا ينساق وراء ثورة يعلم أن نتائجها سوف تكون مجهولة، الأمر الذي حوله إلى مستسلم لما يواجهه من تحديات وبحوزته قناعة أن الثورة تعني زيادة الأوضاع صعوبة. توازن الحكومة المصرية بين تصوراتها القاسية وحساباتها الاقتصادية والاجتماعية المرنة، ما جعل إجراءات التطويق الحاصل في مجالات السياسة والأمن والإعلام تكون مصحوبة ببرامج سخية لتخفيف الأعباء على المواطنين وتوجهات متسارعة للحماية الاجتماعية لكثير من الأسر التي يمكن أن تكون وقودا للثورة المزعومة. ناهيك عن الطريقة التي تدار بها العلاقات الخارجية وتخفف في مجملها من الخلافات الإقليمية والدولية ولا تجعل النظام المصري هدفا لأي من القوى الكبرى في الوقت الراهن على الأقل، لأن الدخول في مشاغبات معه وتشجيع النيل منه، كما كان قبل سنوات، سوف يؤدي إلى نتائج خطيرة لن تتوقف عند الإنهاك الذي تعاني منه. يقود التدقيق في حزم المساعدات الاقتصادية التي تتلقاها مصر من جهات مختلفة إلى ثقة في النظام ورفض ضمني لفكرة تغييره، ما يفقد الجماعة ورقة كانت مهمة عند حدوث ثورة يناير 2011، حيث جاءت وسط موجة من الثورات العربية كان الهدف منها تغيير خارطة المنطقة. ما لم تدركه جماعة الإخوان أو تدركه وتتجاهل مدلولاته السياسية أن الشعب المصري إذا كان غاضبا من ارتفاع الأسعار والخدمات وغير راض عن كثير من أوضاعه فهو لا ينساق وراء ثورة يعلم أن نتائجها سوف تكون مجهولة إذا كان التغيير يحدث بلا ثورات فما الداعي لتشجيعها، وإذا كان النظام المصري لا يمانع في التكيف مع المعطيات الجديدة ولا يصر على التوقف وسط مساحة ماضوية فلا توجد أسباب تدعو إلى إضعافه بالصورة التي تقود إلى النيل منه. ينطوي التبشير بثورة تقليدية على عدم رغبة في التعامل بوعي مع ما يجري في مصر، لكن التبشير بثورة ما يسمى بـ”الغلابة” أو الفقراء يمثل سلاحا خطيرا، فقد أصبحت هذه الطبقة الواسعة مستهدفة، ويتم التركيز عليها في الآونة الأخيرة من قبل إعلام الإخوان، لأن خروجها إلى الشارع يعني فوضى وانفلاتا وطوفانا وعدم قدرة على السيطرة على مفاتيح الدولة. يتجاهل هذا السيناريو ما يتخذه النظام المصري من خطوات لحماية هؤلاء أو كبح جماحهم، ويتجاهل أكثر أنهم لا يلتفتون إلى خطاب تحريضي ولا توجد لديهم القدرة على متابعة ما يوجه إليهم، وهو ما يجهض التحركات التي تستهدفهم، فمن يتابعون خطاب الثورة ليسوا على استعداد للتجاوب معه، فأضرارها أكثر من منافعها. في ظل هذه التقديرات تكاد الثورة تكون مستحيلة، وأي تغيير يحدث في مصر سيكون توافقيا وسلسا وناعما هذه المرة، لأن الدولة لا تحتمل هزات قوية على غرار ثورات سابقة تم استيعاب دروسها جيدا، بما لا يجعل هناك رفاهية لتحركات شعبية قد تأكل الأخضر واليابس معها.