لم يتمكن العسكريون اللبنانيون المحررون من أسر «جبهة النصرة»، من العودة إلى حياتهم الطبيعية في اليوم الأول من الحرية بين عائلاتهم وأحبائهم، إذ غصّت منازلهم بالأقارب والزوار المهنّئين بعودتهم. 487 يوماً من الأسر في جرود عرسال عرف العسكريون الـ 16 المحررون خلالها لوعة التأرجح على حافة الحياة والموت. كانت أوائل أيام الأسر، الأشد قسوة وتأثيراً عليهم. نقلوا بين ثلاثة مغاور خلال ثلاثة أشهر، خلال تلك الفترة ظلّوا معصوبي العيون، مكبّلي اليدين وينامون على بطانيات، تعرّضوا مرة إلى الموت حين سقطت براميل متفجرة على بعد أمتار من مكان تواجدهم. كانت فكرة الموت عندهم واردة في كل لحظة. إلاّ أنهم سرعان ما «تأقلموا» مع أوضاعهم وحالتهم ونسجت «علاقات اجتماعية» بينهم وبين المسلّحين. صحيح أن يوم إطلاق سراح العسكريين بدأ ماطراً، لكن سرعان ما أشرقت الشمس كي يروها للمرة الثالثة خلال سنة وأربعة أشهر، فهم لم يروا النور إلا مرتين حين سمح لهم بالخروج ليلعبوا بالثّلج والتقاط الصّور لهم. لامع مزاحم الذي التقته «الحياة» بعد يوم من الحريّة لن يحلم بعد اليوم ولن يطمح لأن يصبح ما يريد، علّمته تلك التجربة التي اختبره فيها الله، كما يقول، أن يعطي للحياة ما تريد. ويقول: «مثلما تريد الحياة أنا سأتعامل معها، ولكن ليس مثل ما أريد أنا ستمشي الحياة، صرت اكثر واقعية وعقلانية، ما مررنا به علمني حتى كيف أموت». هو ثاني أصغر عسكري محرر، من بلدة يحمر في البقاع الغربي (24 سنة)، تخيّل أنه رحل من الدنيا في لحظات...»عشت بدنيا غير دنيا، لم أتصوّر في حالات اليأس التي مررنا بها أن أخرج إلى الحرية وزملائي وأرى الناس والسماء والسيارات وأسمع زماميرها، كانت ظروفاً صعبة». يروي مزاحم بعض اللحظات الأولى من الأسر، ويقول: «كنا ثلاثة في فصيلة عرسال عندما أتى مسلّحون واقتادونا إلى مكان تواجد الشيخ مصطفى الحجيري، وهناك كان مسلّحون من تنظيم داعش اقتادوا 4 جنود لبنانيين (بينهم الجندي الشهيد محمد حمية) مصابين إلى المكان نفسه حيث مستوصف الحجيري، ثم أتى مسلحون من جبهة النصرة وأخذونا كلنا، وبعدها انقسمت العلاقة بين الطرفين». استقر العسكريون الـ16 بعد ثلاثة أشهر من التنقّل في مغارة بلغ عمقها 7 أمتار، يقول مزاحم. ويضيف: «نأكل كما يأكلون، كل يوم جمعة يجلبون لنا المونة لنحضّر أكلنا، عدا عن تزويدنا بطبخهم». أكثر الأيام قسوة، يقول مزاحم إنها «كانت عندما نسمع القصف يقترب منا وكان المسلحون يتهمون الجيش اللبناني وحزب الله والجيش السوري بأنهم يريدون التخلّص منّا، عندما رمى الجيش السوري، كما قالوا البراميل المتفجرة، على بعد 7 أمتار من مكاننا كنا رحنا فيها لولا لطف الله». ويؤكّد أنهم لم يجبروا على شيء إلا عندما يتحدثون أمام الكاميرا، لافتاً إلى أن المسلحين كانوا «يطلعوننا على مقاطع فيديو لأهلنا عندما قطعوا الطرق». يخلط مزاحم الأفكار وكل ما يتذكّره عن يوميات الأسر، فيعود إلى الطعام، ويقول: «كنا نأكل الرز والعدس والمعكرونة ومرة أو مرتين في الشهر اللحوم، نحرنا خروفاً في عيد الأضحى. كنا نطلب مرة شوكولا ومرة طاووق ومعلّبات لكن من مصروفنا الخاص الذي نتسلّمه من أهلنا خلال زياراتهم أو بطريقة ما». ويضيف: «ربّينا ذقوننا، لأننا كنا مجبرين على ذلك». وعن علاقاتهم الشخصية مع المسلحين، يقول: «بعضهم تأثروا بفراقنا، كانوا يأكلون معنا في بعض الأوقات ونشرب الشاي... كانوا يحزنون على ظروفنا، لأننا عشنا معهم مثلنا مثلهم، المكان الذي يجلس فيه الشخص لوقت سيفتقده». وعن إبلاغهم بقتل الجندي محمد حمية، يلفت إلى أن «مسلحين دخلا الغرفة وطلبا حمية بحجة أن هناك اتصالاً ينتظره، وبعد 40 يوماً عرفنا أنه قتل من مسلحين شاهدوا عملية الإعدام، وبعد شهر قتل علي البزال. ولكن لا نعرف ظروف قتلهما وبعد قتلهما، قلنا سيأتي دورنا». مزاحم الذي بدأ حياته من جديد لا يعرف إذا كان سيستمر في السلك العسكري، ويقول: «لا يمكنني أن أحدد بعد». أما العريف في قوى الأمن الداخلي سليمان الديراني من بلدة قصرنبا فيقول لـ«الحياة» إنه لا يشعر بتردد في العودة إلى السلك العسكري «ولكن أي عمل سأختاره سأدرسه، المؤسسة العسكرية ستقوم بكل واجباتها تجاهنا، ما زلت أتبع مؤسسة لا يمكنني أن أتصرّف من رأسي». ويضيف: «بعد سنة و 4 أشهر على الأسر زاد صبري، كنت عصبياً قليلاً ولكن الآن لا». ويؤكد الديراني أن المسلحين لم يجبرونهم على شيء وأن حمية وعلي البزال كان لديهما شعور أنهما سيقتلان منذ بداية الخطف.
مشاركة :