عصر الجفاف الثقافي في تركيا يلغي التنوع ويهدد المجتمع

  • 4/6/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

رغم التنافر الذي يبدو ظاهرا بينهما فإن السياسة والثقافة متكاملان، ومن خلالهما يمكن تقييم المسار الحضاري لأيّ دولة، لكن غالبا ما يسقط السياسيون في معاداة الثقافة والفنون بحجج كثيرة، وهو ما يؤدي إلى الفقر الثقافي وغياب الحريات والتنوع والتصدع الحضاري، فما الحضارة في النهاية إلاّ نتاج للثقافة. على مدى عقدين من الزمن، احتل حزب العدالة والتنمية التركي قمة الهرم السياسي في أنقرة حيث حدد أولويات الحكومة بدءًا من زيادة الإشراف المدني على الجيش وصولًا إلى توسيع نطاق المستفيدين من الرعاية الصحية والإسكان. بيد أن أحد المجالات التي فشل الحزب في تولي شؤونها هو الفنون. فعلى الرغم من زعم رئيس الحزب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن «أي أمة دون فن أمة مشلولة»، لم تقابل كلماته وسياسات حزب العدالة والتنمية أي أفعال مطلقًا. ففي عام 2003، أي بعد عام من وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، دمج الحزب وزارتي الثقافة والسياحة في هيئة حكومية واحدة، فيما يُعَد خطوة نظر إليها الكثيرون على أنها إشارة إلى أيديولوجيا الحزب المناهضة للفنون. فبدمج هذين الكيانين، أعلنت قيادة الدولة بوضوح أن الثقافة شيء يخص الأجانب، أي أنها أداة مفيدة لجذب السياح، ولكن لا ينبغي أن يستهلكها الأتراك. من منظور أيديولوجي، كان النهج الإسلامي الجديد في التعامل مع الثقافة الذي تبناه حزب العدالة والتنمية موجّهًا نحو السمات الشرقية للثقافة التركية الغنية والمتنوعة، أي التاريخ الذي يجادل البعض بأنه قد طواه النسيان واستهان به «الأتراك البيض». يستخدم أنصار حزب العدالة والتنمية هذا المصطلح المهين والازدرائي لوصم الأتراك الذين اعتنقوا الأيديولوجيا الغربية، وهو الاتجاه الذي أثار قلق الحزب الحاكم منذ إنشائه. وفي مقابلة أجريت في ديسمبر 2020، أوضح إبراهيم قالين كبير مستشاري أردوغان للسياسات السبب وراء ذلك؛ إذ صرح قائلًا «إن مسايرة الحداثة غير المنتظمة في تركيا فرض هذه الازدواجية» بين الشرق والغرب. واستطرد قالين قائلًا بأنه لمواجهة ذلك، ينبغي على الأتراك العودة إلى جذورهم وتراثهم الثقافي. السلطة ضد الفن ◙ ثمة قصور دائم في فهم حكومة حزب العدالة والتنمية للدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة والفنون في المجتمع ◙ ثمة قصور دائم في فهم حكومة حزب العدالة والتنمية للدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة والفنون في المجتمع يُعَد قالين، وهو عازف عود محترف له العديد من الألبومات، من القِلة المهتمة بالفنون في حزب العدالة والتنمية. أما غالبية الأعضاء الآخرين، من أردوغان ومن يوالونه في السلطة، فهم أكثر تحفظًا، الأمر الذي قد يفسر عدم وفاء الحزب بتعهداته فيما يخص الترويج للفنون. فيقتصر الإنتاج الثقافي لحزب العدالة والتنمية على عدد قليل من البرامج التلفزيونية التي تصور حياة السلاطين العثمانيين وإهداء الرئيس أردوغان متحف أودون بازار الحديث لوحة خطية لحرف «الواو» كتبها بنفسه. ولسوء الحظ، يتضح من خطط إنفاق النظام الحالي أنه لا ينوي بذل المزيد لتعزيز التنوع الفني. فتلقت رئاسة الشؤون الدينية أكثر من ثلاثة أضعاف تمويل وزارة الثقافة والسياحة لعام 2022؛ إذ تبلغ الميزانية الحالية للشؤون الدينية نحو 17 مليار ليرة تركية (1.14 مليار دولار)، بزيادة قدرها 24 في المئة عن عام 2021. وتكشف نفقات الطوب والملاط عن وضع مماثل؛ فُخصِص في الآونة الأخيرة أكثر من ملياري ليرة لتجديد مركز أتاتورك الثقافي في إسطنبول، وهو مركز فني يعمل بشكل مثالي وأُغلِق بعد احتجاجات حديقة جيزي، في حين أن ميزانية مسرح الدولة جذبت حوالي 300 مليون ليرة فقط. حتى عندما تستثمر الحكومة في الفن، فإنها تفعل ذلك بذوق سيء. وثمة قصور دائم أيضًا في فهمها للدور الذي يمكن أن تلعبه الفنون في المجتمع. فنصب محمد أكسوي التذكاري للإنسانية، الذي يهدف إلى تعزيز المصالحة بين الأرمن والأتراك، الأمر الذي يُعَدّ عاملًا محفزًا نوعًا ما للسلام، وصفه أردوغان حين كان رئيسًا للوزراء بأنه «عرض غريب الأطوار». نبذ ثقافة التنوع ◙ الإنتاج الثقافي لحزب العدالة والتنمية يقتصر على عدد قليل من البرامج التلفزيونية التي تصور حياة السلاطين العثمانيين بدلًا من الترويج لفنانين مثل أكسوي، اختارت الحكومة إنفاق 4 ملايين ليرة على تمثال بطيخة يخرج منها طفل عملاق ليكون رمزًا لمدينة ديار بكر، وهو ما يُعَدّ تجسيدًا للذوق السيء والخلوّ من المعنى. تعزز مثل هذه الأعمال الشعور الشعبي بأن ذوق حزب العدالة والتنمية يجعله يفضل مواقف سيارات متعددة الطوابق ومراكز التسوق على المتاحف والمعارض. والرقابة الثقافية ليست أيضًا بالأمر المستجد على تركيا، وحزب العدالة والتنمية ليس الوحيد الذي يوزع ميزانيته وفقًا لتفضيلاته. لكن ما يختلف الآن هو مستوى الخطاب المُستقطَب الذي يتبناه قادة البلاد، والذي ينتج عنه رد فعل قومي عنيف ضد الرموز الثقافية والفنانين الذين لا يشاركون حزب العدالة والتنمية سياساته. وقائمة الضحايا من الفنانين طويلة ومتزايدة. ففي يناير 2017، تعرض مصمم الأزياء بارباروس شانسال لهجوم من حشد من الناس في مطار أتاتورك بإسطنبول بعد أن انتقد حزب العدالة والتنمية على وسائل التواصل الاجتماعي. وقبل ذلك بعام، اتُهمت أمينة الأعمال الفنية بيرال مادرا ظلمًا بالخيانة من عضو البرلمان عن حزب العدالة والتنمية بولنت تورنا، ما أدى إلى إلغاء معرض جاناكالي الذي يُقام كل عامين عام 2016. وفي مايو 2018، أُلقي القبض على مغني الراب الأشهر في تركيا، إيزيل، خلال إحدى حفلاته ووُجّهت إليه تهمة الترويج لتعاطي المخدرات؛ وصار يعيش في ألمانيا منذ عام 2019. إذا كانت حرية التعبير والفن والثقافة مقاييس لتنوع المجتمع، فإن تركيا تجسيد حيّ للتجانس. عند ابتعاد حزب العدالة والتنمية عن السلطة – سواء حدث ذلك العام المقبل أو بعد 10 سنوات – فسيُذكَر عهدهم بأنه عصر تقييد ميزانيات الفنون، وتحييد دور المؤسسات الثقافية، وتهميش الفنانين، والاختفاء القسري للاختلاف الفني. يقول الممثل ليفنت أوزومجو، وهو فنان آخر شيطنه نظام حزب العدالة والتنمية «لا يوجد سوى مستقبل واحد، ونحن مَن نقرره الآن». ومن المؤسف أن هذا المستقبل سيشهد خمولًا ثقافيًّا طالما أن حزب العدالة والتنمية هو صاحب القرار.

مشاركة :