المفارقات الجيوسياسية في الحرب الروسية – الأوكرانية

  • 4/6/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عندما اجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جين بينغ في بكين في الرابع من شهر فبراير الماضي في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، أي قبل الحرب على أوكرانيا بعشرين يوما، كان لقاؤهما بعيدا عن النمط الروتيني وأقرب إلى إعلان ولادة تحالف جديد بين البلدين للوقوف معا بوجه تحالف الديمقراطيات الذي يتزعمه الرئيس الأميركي جو بايدن. إذ أصدر الزعيمان بيانا ختاميا زادت كلماته عن 5 آلاف كلمة، وكان أهم ما جاء فيه “إن شراكتهما ليست لها حدود، وأنهما يعتزمان الوقوف معا ضد الدول الديمقراطية التي تقودها الولايات المتحدة”، كما شجب البيان توسع حلف الناتو والتأكيد على أنّهما سيؤسسان “نظاما عالميا جديدا مع ديمقراطية حقيقية”. كان هذا البيان مُثيرا للقلق من ناحية إيحائه أنّ العالم بات قاب قوسين أو أدنى من انقسامه إلى نظامين على وشك الدخول في حلبة صراع مع بعضهما. وعلى الرغم من أنّ الغرب كان ومازال ينظر إلى الصين بأنها أكثر تعقلا من روسيا باعتبار أنها تربطها مصالح اقتصادية متشعبة مع جميع دول العالم، وبخاصة دول أوروبا وأميركا الشمالية، وبالتالي من المستبعد أن تجازف بالدخول في حالة حرب تفقد فيها مكاسبها الاقتصادية، إلا أن وقوفها بهذا الشكل إلى جوار روسيا أثار الكثير من الشكوك والتساؤلات حول نواياهما، لاسيما وأن الرئيسين التقيا سوية 38 مرة خلال السنوات السابقة، وطورا بينهما علاقة شخصية وقوية للغاية ويشتركان في مصلحة استراتيجية رئيسية تتمثل في محاولة إضعاف القوة الأميركية. ومع ذلك، كان البعض يحاول التخفيف من وطأة البيان من خلال تفسير موقف الصين أنّه ليس أكثر من مجرد “مُنازلة كلامية” تستهدف منافسة الغرب سياسيا دون الدخول في صراع فعلي معه. يبدو أن الحرب الروسية أعادت إحياء التحالف الأوروبي – الأميركي بعد سنوات من الخلافات الحادة بين أعضائه لاسيما فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لكن مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، تعمقت المخاوف الغربية تجاه احتمالات انخراط الصين في هذا الصراع أكثر من ذي قبل، ولعل ما كان يزيد من حدتها أنّ بكين كانت لديها معرفة ضليعة بخطط موسكو، وهذا ما أشار إليه تقرير استخباراتي، صدر بعد بدء الحرب، من أنّ كبار المسؤولين الصينيين كان لديهم مستوى معين من المعرفة المباشرة بخطط ونوايا روسيا الحربية قبل بدء الغزو، وأنّ الرئيس الصيني طلب من نظيره الروسي خلال لقائهما على هامش افتتاح الدورة الأولمبية تأجيل عملية الغزو إلى ما بعد انتهائها، وفعلا لم تبدأ العمليات الحربية إلا بعد انتهاء الموسم الرياضي بأيام معدودة. أيضا ما كان يزيد من شكوك الغرب، أنّه خلال فصل الشتاء الحالي نقلت روسيا العديد من وحداتها وقواتها العسكرية المتاخمة للحدود مع الصين إلى مناطق شرق أوكرانيا، ما كان يوحي بوجود مستوى عال من الثقة بين المسؤولين الروس والصينيين واطلاع كامل على قرار الحرب. وبمرور الأيام على اندلاع الحرب تكشفت بعض المفارقات الجيوسياسية التي كان من المستبعد توقعها بالنسبة إلى روسيا والصين. فقبل الحرب، كانت الصين تُحقق بعض الفوائد من علاقتها الدافئة مع روسيا، إذ أن الرئيس بوتين كان يستفز بسياساته حلف الناتو في أوروبا ويتحدى الولايات المتحدة هناك، ولا يتردد في مضايقة “دولة ديمقراطية” ناشئة مثل أوكرانيا، وهو ما كان يمنح الأمل للصين، وإن كان بشكل ضعيف، من أنّ إقدام بوتين على غزو أوكرانيا يُمكن أن يُمهد الطريق أمام الصين لضم جزيرة تايوان بذات الطريقة مستغلة ضُعف العالم الغربي وتردده في مواجهة قوى عظمى مثل روسيا والصين. لكن خلافا للتوقعات، يبدو أن الحرب الروسية أعادت إحياء التحالف الأوروبي – الأميركي بعد سنوات من الخلافات الحادة بين أعضائه لاسيما فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي تسببت سياسته الشعبوية ونزعته الخطابية الانعزالية المتمحورة حول شعار “أميركا أولا” بزيادة الانقسام بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية وأعضاء حلف الناتو، حتى أنّه كان يُغري بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي ويعدها بعقد معاهدة تجارية متميزة معها عوضا عن البقاء في الاتحاد، وكان من أثر هذه الخلافات أن بلغ الضعف في حلف الناتو درجة أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصفه بأنّه “ميت دماغيا”. إلا أنّ الخطر الروسي أعاد بناء أواصر التحالف بين هذه الدول، وبات الاتحاد الأوروبي، بعد نكسة خروج بريطانيا، أكثر تماسكا من أي وقت مضى. من المحتمل أن تجد الصين طرقا مختلفة لمساعدة روسيا على التهرب من العقوبات وتوفير شريان حياة مالي لها إلا أنها ستكون بحدود معينة وليست بالمستوى الذي تطمح فضلا عن ذلك، نجد أنّ دولا أوروبية مُحايدة مثل فنلندا والسويد أخذت تفكر بالانضمام جديا إلى حلف الناتو حتى لا يكون مصيرها مثل أوكرانيا، كذلك قررت ألمانيا وفي سابقة غير معهودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مضاعفة الأموال المخصصة لميزانية التسلح والدفاع، وكأنّ هذه الدول جميعها استفاقت على حقيقة كانت تنكرها دائما وهي أنّه مهما كانت العلاقات ودية بين الدول وتجمعها مصالح مشتركة، مثلما هو الحال في التشابك الاقتصادي الروسي – الأوروبي عبر أنابيب النفط والغاز، إلا أنّ اعتبارات القوة لا يجب أن تسقط من حساباتها، ومن الضروري الاستعداد جيدا لروسيا أكثر “عدائية”، وكأن كراهيتها المشتركة لروسيا هي التي جمعت قلوبها، والمفارقة التاريخية هنا أنّ الموقف هذا يتماثل مع الحقيقة السوداوية التي سبق وأن ألقى الأديب الروسي أنطوان تشيخوف الضوء عليها عندما كتب في مدوناته التي حملت عنوان دفاتر سرية “أنّ الحب والصداقة والاحترام لا تُوحد صفوف الناس قدر ما توحدها الكراهية تجاه شيء ما”. في كل هذا يتبدى لنا أنّ روسيا أوجدت بطريقة غير مقصودة تهديدا لأمنها ما كان له أن يظهر لولا هذه الحرب، وأن بوتين الذي كان يستهدف جعل روسيا أقوى وأكثر تأثيرا ونفوذا من المحتمل أن تخرج بلاده من الحرب وهي أكثر ضعفا وعزلة عن المجتمع الدولي. هذه المفارقة الجيوسياسية ستدفع الصين حتما إلى إعادة حساباتها ليس في ما يتعلق بضم تايوان فحسب، بل في خططها المستقبلية المرتبطة بتحدي التحالف الغربي – الأميركي. والأكثر من ذلك، أن الحرب الروسية وضعت الصين أمام حقيقة أن صداقتها مع موسكو تبدو مُكلفة للغاية وتُرغمها على اتخاذ خيارات حذرة. لقد وافقت الصين، في سبيل إرضاء الغرب وتجنب عقوباته، على الالتزام بمجموعة من العقوبات المالية المفروضة على روسيا، لكن من جانب آخر ومن أجل إرضاء روسيا أعلنت بكين التزام الحياد وامتنعت عن إدانة روسيا في مجلس الأمن أو حتى الموافقة على قرار محكمة العدل الدولية بضرورة إنهاء العمليات الحربية فورا، إلا أن هذا لا يبدو كافيا بالنسبة إلى موسكو التي تتوقع منها الالتزام بما تم الإعلان عنه سابقا من أنّ “شراكتهما بلا حدود”، وهو ما يبدو صعبا بالنسبة إلى الصين، ما يزيد من حدة المأزق السياسي ما بين الوقوف مع روسيا ومساعدتها والتعرض للعقوبات الغربية، أو التخلي عنها للحفاظ على موقعها الاقتصادي المتميز وهو ما يُهدد بنسف الشراكة والصداقة بينهما. من المحتمل أن تجد الصين طرقا مختلفة لمساعدة روسيا على التهرب من العقوبات وتوفير شريان حياة مالي لها إلا أنها ستكون بحدود معينة وليست بالمستوى الذي تطمح إليه روسيا.

مشاركة :