تدخل الحرب الروسية الأوكرانية شهرها الخامس وقد غيرت معها الخريطة الجيوسياسية لأوكرانيا بشكل كبير، بعد التقدم الميداني الذي حققته القوات الروسية في الآونة الأخيرة على أكثر من محور، وتكلل حتى اللحظة بالسيطرة على مقاطعة لوغانسك الاستراتيجية، بعد أن أحكمت قبضتها على آخر معاقل القوات الأوكرانية في ليسيتشانك. وتأتي أهمية السيطرة الروسية على لوغانسك هو أنها ستشكل نقلة مهمة لتفرغ القوات الروسية، والرديفة لها، للسيطرة على دونيتسك - وبالتالي «إعادة إقليم الدونباس إلى حدوده التاريخية» ـ حسب وجهة النظر الروسية. كما أنها منحت موسكو ثقة إضافية برزت بشكل واضح في تصعيد الرئيس فلاديمير بوتين لخطابه ضد الغرب، وحديثه بأن بلاده مستعدة لأي معركة، وأن «الأمور الجدية» في أوكرانيا «لم تبدأ بعد، وأن هذه العملية لا يمكن وقفها حتى تحقيق أهدافها». كما يوضع في هذا السياق المرسوم الذي أصدره بوتين، وينص على تسهيل إجراءات منح الجنسية الروسية لكل الأوكرانيين، ما يعني أن الخريطة الديمغرافية لأوكرانيا ستكون هي الأخرى على موعد مع تحدٍ جديد. نقطة تحول ويأتي ذلك بعد أن حسمت روسيا معركة ماريوبل - ثاني أكبر مدينة في دونيتسك - وواحدة من أكبر الموانئ على بحر آزوف، والتي تعد مركزاً صناعياً مهماً، بما تملكه من مؤسسات تعدين وبناء الآلات وإصلاح السفن، والتي وفرت السيطرة عليها إمكانية فتح طريق بري مباشر إلى شبه جزيرة القرم، والذي تم قطعه في عام 2014. في المقابل، لم يعد بإمكان القوات الأوكرانية الوصول إلى تلك المناطق براً، وكذلك بحراً، لأن بحر آزوف يصبح في الواقع جسماً مائياً داخلياً لروسيا، وهو ما منحها تأثيراً على توازن القوى العام في حوض البحر الأسود بأكمله. إضافة لذلك، شكلت سيطرة القوات الروسية على مصنع أزوفستال، الذي يعد واحداً من أكبر وأهم المنشآت الصناعية في أوروبا بأكملها، ضربة قوية لعصب اقتصاد مدينة ماريوبول وأوكرانيا بالكامل. ومعروف أن طاقة إنتاج المصنع قبل السيطرة عليه بلغت أكثر من 4 ملايين طن من الصلب الخام سنوياً. وعلى هذا النحو، لم تفلح المساعدات الغربية حتى اللحظة في تغيير مسار العمليات العسكرية فضلاً عن قلبها لصالح كييف. فإلى جانب تآكل رقعتها الجغرافية، وتعرض بنيتها التحتية العسكرية لدمار كبير، تسببت الحرب بأضرار جسيمة كذلك للاقتصاد الأوكراني، لا سيما في مجال صادرات الحبوب، بعد أن كانت كييف في طريقها لشغل المركز الثالث عالمياً. ويمكن الإشارة هنا إلى الصور المأخوذة عن الأقمار الاصطناعية ونشرتها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، وتظهر سيطرة القوات الروسية على نحو 22 في المئة (معطيات شهر مايو) من الأراضي الزراعية الأوكرانية عالية الخصوبة، وتؤمن كميات هائلة من الشعير والقمح والكانولا، إضافة إلى محاصيل الذرة ودوار الشمس. على صعيد آخر، وضعت روسيا كامل ثقلها لمواجهة العقوبات الغربية عليها بسبب الحرب في أوكرانيا، وتقليص تداعياتها إلى الحد الأدنى الممكن. فقد دعمت الدولة العملة الوطنية، بعد أن انهارت في الأيام الأولى للحرب إلى مستوى غير مسبوق بلغ نحو 122 مقابل الدولار، قبل أن يعود إلى مستوى أفضل مما كان عليه حتى قبل العقوبات وصل إلى 51 روبل مقابل الدولار. ويؤكد الخبير الاقتصادي الروسي أنتون بروكودين، أن نتائج العقوبات بدأت تظهر في الدول الغربية قبل أن تصل ارتداداتها إلى روسيا نفسها. ويشير إلى فعالية إرغام موسكو الدول المنضمة إلى العقوبات بشراء الغاز والنفط الروسيين بالروبل، الشيء الذي خلق ـ برأيه - حالة إرباك واضحة في الأسواق الأوروبية، كان من جملتها الارتفاع الكبير لأسعار مشتقات الطاقة الحيوية، فضلاً عن المواد الغذائية والخدمات. أما على الخط الدبلوماسي، فيرى محلل الشؤون الدولية، دميتري كيم، أن الغرب الذي «فوت فرصة تقديم الضمانات الأمنية لروسيا»، ووضع ركائز جديدة للأمن في أوروبا بدأ يستشعر «تهور» مقاربته لردة الفعل الروسية، وتجاهله للخطوط الحمراء. ومن شأن ذلك ـ حسب رأيه - إحداث شرخ داخل المنظومة الغربية، بسبب تعرض عدد من بلدانها لأضرار غير مبررة، وغير متوقعة، جراء وصول الحوار الروسي ـ الأطلسي إلى طريق مسدود. كما لا يستبعد كيم، أن يؤدي استفحال الأزمة الاقتصادية في أوروبا إلى إشعال اضطرابات اجتماعية هناك، لأن الرأي العام في أوروبا ـ حسب كلامه ـ لم يعد يلقي بالاً لشعارات الخطر الروسي، بقدر ما هو خطر مقاربة الساسة الأوربيين المتهورة لهذه المزاعم. أوراق تفاوضية ويخلص الخبير الروسي إلى أن أوراق موسكو التفاوضية أصبحت أكثر قوة من أي وقت مضى، بسبب النجاحات الميدانية الأخيرة، وفي ذات الوقت، اجتياز الاقتصاد الروسي لامتحان العقوبات. وبرأيه، فإن تمكن القوات الروسية من بسط السيطرة على كامل إقليم الدونباس سيدفع كييف (بتشجيع من الغرب هذه المرة) إلى طلب التفاوض مع موسكو، في محاولة لوقف التقدم الروسي أكثر داخل العمق الأوكراني، والذي سيتلازم مع الاستحواذ على أوراق تفاوضية أكثر فعالية في المستقبل، سيتم استثمارها في فرض رؤية جديدة للنظام الدولي، تراعى فيها مصالح كافة الدول، وتنهي إلى غير رجعة نظرية القطب الواحد. تابعوا أخبار العالم من البيان عبر غوغل نيوز طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :