من البديهي القول إن البشر يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالمكان الذي يعيشون فيه؛ لذا ربط الفلاسفة والمفكرون بين الأماكن وهوية الإنسان، إذْ يلعب المكان دورًا مهمًا في تكوين هوية الكيان الجماعي، وكذلك في التعبير عن المقومات الثقافيّة، وقد ذهب البعض إلى أنّ المكان يُعتبر إشكالية إنسانيّة إذا اُغتصب أو إذا حُرمت منه الجماعة، وهو ما يفاقم أزمة الإنسان. وقد لا ندرك قيمة المكان وأهميته إلا بافتقاده، والمكان كان بطل رواية “غربة المنازل” للكاتب المصري عزت القمحاوي. يمثّل البيت المكان الفردي مقابل المكان الجماعي، الذي تتحقق فيه ذات قاطنه، على عكس الأماكن الجماعية (كأماكن العمل وغيرها) التي لا يشعر فيها الفرد باستقلاله الذاتي، فيمكن النظر إلى المكان باعتباره “نظامًا اجتماعيًّا - اقتصاديًّا - عاطفيًّا ينتظم العلاقات البشريّة جميعها في هذه المجالات”. كما يرتبط المكان بمفهوم الحرية، فالحرية في أكثر صورها بدائية هي حرية المكان، فكما تقول سيزا قاسم “الإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية، يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رُقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته”، والإنسان -حسب يوري لوتمان- يتذبذب بين الرغبة في الانتشار والتقوقع والانكماش في حركة جذب نحو الداخل، لكن في ظني علاقة الانتشار والتقوقع / الانكماش مرتبطة بما يُمارسه المكان من تأثيرات، ألفة أو نفور، ارتباط أو ابتعاد، إلى آخر ذلك من العلاقات الثنائية التضادية. وفي ضوء هذه العلاقة الإشكالية بين المكان وقاطنيه يولي الكاتب المصري عزت القمحاوي في معظم كتاباته (الروائية وغيرها) قيمة وأهمية للمكان الضيق (غرفة/ بيت/ منزل)، وتتأتى هذه الأهمية نتيجة لفعل الحصار وضغوط رحابة العالم الخارجي، الذي يُمارِس سطوته على إنسانه/ ساكنه، ومن ثمّ يكون الملاذ التقوقع في أماكن ضيقة، بعيدًا عن هذه الإكراهات والممارسات الفجّة، التي تحدث في العالم الخارجي. متتالية قصصية على مستوى الشكل تأخذ المتتالية القصصية طابع رواية الشخصيات على الرغم من هيمنة المكان وتأثيره الفادح عليها على مستوى الشكل تأخذ المتتالية القصصية طابع رواية الشخصيات على الرغم من هيمنة المكان وتأثيره الفادح عليها نصّ عزت القمحاوي “غربة المنازل”، الصادر عن المصرية اللبنانيّة والذي بلغ القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2021، مراوغ للتصنيف، وواقع في مساحة بينيّة بين جنسي “الرواية” حسب الغلاف الخارجي وكلمة الناشر، و”المتتالية القصصيّة” حسب التيمة الشكلية المهيمنة التي تؤطر الحكايات المتصلة – المنفصلة، عبر راوٍ عليم يجمع خيوط الحكايات بعينه ويراقب مراقبة شديدة ما يحدث خلف الأبواب المغلقة بحكم الوحدة التي اختارها أصحابها، أو بفعل كوفيد - 19 الذي ألزم الجميع بعزلة إجبارية. ويُفتتح النص بمشهد مقتطع من “ألف ليلة وليلة” التي يتجاوز حضورها مجرد اسم الكتاب وحكاياته إلى وظيفة التناسل الحكائي والتراسل. الجزء المقتطف يأتي من “حكاية عبدالله بن فاضل وأخويه ناصر ومنصور” عندما يدخل المدينة ويرى كل ما أمامه وقد تحوّل إلى حجر، الرجل والمرأة وعقدة الثياب، والزيّات وبضاعته المنصوبة أمامه، وهو استهلال يهيئ القارئ ويكسر أفق توقعاته بطبيعة النص الذي تدور أحداثه في زمن كورونا، وقد تجمدت الحياة بفعل كوفيد – 19، وفي نفس الوقت يتواءم مع طبيعة المدينة التي تحولت من مدينة اللذة إلى مدينة الغبار، بتجمُّد الحياة فيها، وواقعها المؤذي الذي لا يَقِلُّ عن إصابة أبنائها / سكانها بالجمود والتَّصحُّر. هذا التمهيد بمثابة عتبة نصيّة يضع المؤلف عبرها القارئ في مواجهة مع نص أحداثه تدور في زمن متجمد، لم يعد سائلاً على نحو ما كان يقول عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، وهو ما يحضر في مشهد المؤرخ بديع العطار الذي يقرّر فجأة التخليّ عن خوفه فيغادر مخبأه -للمرة الأولى- وينزل إلى الشارع، فيتجسّد مشهد الاستهلال كليًّة في ما يرى وقد “مضى في قلب الشارع بين صفين من السيارات المغبرة، تستلقي فوق أسقف بعضها كلاب لم تأبه لوجوده، كأنها تماثيل جامدة على أوضاعها منذ الأزل، مدّ بصره بعيدًا؛ فأبصر تحت الأنوار الصفراء للميدان تمثال المحارب القديم جامدًا على قاعدته بيده المرفوعة لتحية طابور خيالي من جنوده”. وتتكرّر تيمة الجمود داخل النص، وتأخذ أشكالاً متعدِّدة منها صورة نجية ممرضة طبيب النساء فريد عبدالمحيط، بعد أن خدرته مريضة شابة وعطلت حواس شمّه، فعندما انتبه لما حدث بعد خروج المريضة “رأى نفسه جالسًا، وفي مواجهته ممرضته نجية جامدة كتمثال يتعرّق عطرًا حارًا…”، إلى جمود حياة الباحث بديع العطار في قلعة البحر، إلى أن يُقرِّر العودة إلى مدينة الغبار، فينزوي في شقته، يُطارد الذباب، حتى يهتدي -في الحديقة بفعل المشي- إلى سيدة الكلب (لطيفة العراقي) التي لا تخلف توقيتها اليومي قبل الغروب، فيخرج من دائرة الجمود التي قبع فيها ردحًا من الزمن بالزواج منها، فأثبتا “أن بوسع اثنين أن يكونا واحدًا”، وصولاً إلى جمود حياة ثابت سند رئيس الهيئة داخل مملكته، بالمراقبة والسيطرة، وعندما يُسقط كوفيد - 19 هيبته ومكانته يعتزل، وينتهي به الحال وقد تولّى “صندوق العمارة” إلى الجلوس مع سالم البواب مرتديا “جلبابًا، وطاقية شبيكة بيضاء، أمام العمارة دون أية احتياطات”. حكايات متفرقة حكايات متفرقة زمن الحياة المتجمد الذي يعيشه أبطال الرواية/ المتتالية يستدعي زمنًا كرونولوجيًّا، وهو ما نستلمحه من الاستدعاءات المتعدِّدة التي تكشف ماضي الشخصيات وإخفاقات الحب (فريد عبدالمحيط/ بديع/ صافي الوقاد) أو إخفاقات الزواج (سالم البواب/ لطيفة العراقي)، والعلاقات المتوترة (فريدة ويوسف/ الشابة الساحلية وزوجها/ حسام فخر وسعيد الطناحي) والتي تضيء المجهول في واقعها (وربما مستقبلها)، وكأن هذه الاستدعاءات الزمنية/ الاقتطاعات الحياتيّة، التي تُنشّط الزمن ذهابًا ومجيئًا، تُقابِل جمود الحياة داخل البناية مع قدوم الوباء الذي أصاب الجميع والحياة بالجمود إلى حدّ الموات، وكأنها الباعث إلى الحياة في زمن مُفارِق لزمن الأحداث. قارئ النص/ المتتالية يتقابل مع حكايات متفرقة، مستقلة، تبدو في معناها الظاهر غير مرتبطة بحكايات أو عوالم باقي أفراد العمارة إلا بتواجدها داخل بناية واحدة، أو بواسطة البواب سالم وزوجته طِعمه التي تتعدّد وجوهها باختلاف زاوية الرؤية والرائي لها (فهي مطيعة مساعدة زوجها سالم، معينة وخدوم رامي وغيداء، لصة حمادة رزق، مثيرة سعيد الطناحي، لعوبة وشبقة حسام فخري. لكن في الحقيقة ثمة روابط أخرى تجمع بين هذه العوالم المتعدِّدة، تتمثّل في هاجس الخوف الذي سرى وسيطر على جميع الشخصيات؛ الخوف الذي بثّته مدينة الغبار في نفوس ساكنيها، بطرائق متعدِّدة؛ كالخوف من المستقبل كما في حالة حمادة رزق، والخوف من تداعي المدينة كما في حالة المؤرخ بديع العطار، ومن جرّاء هذا فرض على نفسه حصارًا ذاتيًّا قبل أن يفرض الوباء حصارًا عامًا، وانتهى به ميتًا وحيدًا، دون أن يُعرف هل قتل أم مات؟ وهناك الخوف الذي تسرب إلى نفس الباحث وديع العطار، بسبب البيروقراطية التي أعاقت البحث العلمي، وانتهى الحال به إلى مطاردة الذباب في شقته، بدلاً من أن يكون مثيلاً لداروين كما كان يتنبأ له أساتذته، وهناك الخوف الذي أودى بالفتاة التي كانت تزور الدكتور فريد العطار قادمة من بلدتها الساحلية، فألقت بجسدها من القطار، إضافة إلى الخوف الذي تسرب إلى فريدة من المرأة التي كانت تحتضن يوسف في عربة القطار، وقبلها الخوف من العيون المتربصة، فلجأت إلى شقة صديقتها هيام لتلقى يوسف فيها، وكذلك الخوف على الماضي كما في حالة صافي الوقاد، وأخيرًا الخوف الذي طارد سعيد الطناحي بفعل التكنولوجيا، وقد تحوّل إلى قسوة أودت بحياة حسام فخري، ثم فراره عن المكان كله. الخوف أوقع الشخصيات المتتالية القصصية أسيرة للوحدة والعزلة، وحجب عنها عيش حياة طبيعية وكأنه صخرة سيزيف هذا الخوف الذي أوقع الشخصيات أسيرة للوحدة والعزلة وحجب عنها عيش حياة طبيعية وكأنه أشبه بصخرة سيزيف التي كبّلت وأعاقت حركتهم في التمتُّع بالحياة، ثمّ ما فرضته الجائحة التي عمّت البلاد والعباد، هيّأ للراوي العليم فرصة تتبع هذه الحيوات في عزلتها، فينقل لنا أفعالها وأحاسيسها المتباينة بين الخوف والهلع والارتياب والونس وغيرها من أحاسيس فاقم الوباء من الشعور بها، إلى درجة أن الدكتور فريد عبدالمحيط لا يجد بدًّا من أنْ يتبادل الابتسام مع رجل المرآة الذي هو نفسه، وبالمثل تعكس فريدة صورتها على المرأة التي تحاصرها في عربة المترو، وتكتشف أنها “ليست سوى صورتها هي منعكسة على زجاج النافذة، والرجل الذي تتخيله ليس سوى يوسف بعد عدة سنوات”. على مستوى الشكل تأخذ المتتالية القصصية طابع رواية الشخصيات على الرغم من هيمنة المكان وتأثيره الفادح على الشخصيات، لكن الشخصيات هنا هي الأبرز والأكثر تأثّرًا بالمكان وبإحباطاته، فترتبط الشخصيات بحكايات تكشف عن صراعيّة المدينة وسطوتها على قاطنيها. هذا التقابل، لو افترضنا أنه مقصود من قبل الراوي العليم الذي يهيمن على حركة السرد، بمثابة حيلة يكشف من خلالها تأثير الفايروس الذي كان من آثاره الفادحة علاوة على غياب الأحبة أنه فَرضَ عُزلة إجبارية على الجميع، ووَضَعَ حدودًا في العلاقات بين الأشخاص داخل البيت الواحد، وداخل البناء؛ فهم يلتقون ولكن دون أن يقتربوا من بعضهم البعض، ومن ثمّ عمد الكاتب إلى شكل المتوالية بما يفرضه من استقلالية الحكايات، على نحو ما تكشفه الوحدات المنفصلة التي تسرد حكايات ثنائية لشخصيات مثل فريدة وزينب، وغيداء ورامي، وصافي الوقاد وعمر السنديوني، وسعيد الطناحي وسمحة، وأخيرًا وديع العطار وسيدة الكلب. كما تميل المتتالية في بعض الأحيان إلى السّرد المعرفي، حيث يُقدّم الراوي العليم موجزًا لتاريخ الأوبئة، سواء ما حدث لمدينة الغبار أو ما وقع للمدينة المطمورة تحت “تلال القمامة”، وإحصاءات لعدد الذين أفناهم الوباء، ثم تاريخ الأوبئة ومصدرها (الشرق) وآثارها المدمرة، فيستعرض تاريخ مآسي طاعون آثينا الذي دمرها في القرن الخامس قبل الميلاد، وأودى بحياة مئة ألف شخص، وطاعون المدينة المطمورة تحت مدينة الغبار، وأنفلونزا العقد الثاني من القرن العشرين. واللافت حقًا أن حكايات مدينة الغبار الشبقة (فريدة ويوسف، وفريد عبدالمحيط ونساؤه، وسعيد الطناحي وطِعمة، ورامي حنا وغيداء) أو المأساوية (صافي الوقاد، ووديع العطار، وحسام فخري، وحمادة رزق) لم يَفُض غلالتها سوى كوفيد - 19؛ فالمرأة التي كانت تحتضن يوسف -في عربة المترو- بعينيها، كانت بمثابة المحرّض لفريدة كي تستكشف ذاتها، وخفاياها التي لم يطلع عليها أحد، مثل أنها لم تتصور أن تستحم مع رجل، إلى أن اقتحم يوسف عليها حمامها ذات مرة، فأحبت ذلك كثيرا ولم تصرّح به لمخلوق، أو حتى تاريخ العلاقة بينهما، الذي بدأ عن طريق سماع حكايات عنه. شخصيات متوترة Thumbnail تعدد الشخصيات يعكس تعددًا لمسببات الخوف والعزلة؛ فالمؤرخ بديع العطار هو واحد من شخصيات المدينة المشوّهة/ مدينة الغبار؛ اضطره التنقيب عن أخبارها لأن يفرض على نفسه عزلة إجبارية وكان قضى خمسين عامًا يفتش وينقب عن “عجائب الأخبار”، وكان الخوف هو المقلق له دون سائر المخاطر كبشاعات الحروب أو المجاعة أو الوباء، فالخوف يعتبره الأبشع من كل بشاعة “لأنه يُبدِّدُ تضامن الضحايا ويحوِّلهم إلى ضباع تتداعى لنهش مَن يسقط من بينهم، يتلذذون برؤية لحمه بين الأنياب لمجرد أنهم ليسوا مكانه”، وقد حوّل الخوف حياته إلى كابوس، فصار من عادته أن يهتف بصوت عالٍ. حضور شخصية المؤرخ مهم هنا، فالراوي بحاجة إلى توثيق كوفيد - 19 وتاريخ الأوبئة التي تعرضت لها البشرية، وهذا لا يأتي إلا من شخص محقّق، ومهمته تتمثّل في التنقيب عن الأخبار والمجهول، لكن لا يقدمه المؤرخ وهو منفصل عن واقعه الذي يدفع إلى الجنون، وخاصة أنه يمتلك عين زرقاء اليمامة التي ترى تداعي مدينة الغبار، فانهزم أمام بشاعة ما رأى، حتى اُتّهم في عقله، وهو العين البصيرة التي رأت الفواجع و”أن المدينة تتداعى، أشياء كثيرة طيبة تختفي، بينما تنتشر الثعابين والسحالي والأبراص في كل مكان، ضئيلة سريعة الحركة ، قلقة متشفية”. وعلى النقيض من المؤرخ بديع الذي كان يشعر بالخطر، وقد تحقّق في صورة الفايروس، فإن الخذلان الوحيد للدكتور فريد عبدالمحيط كان في عجز أنفه “عن تشمم المستقبل؛ فلم يعرف أن فايروسًا غامضًا سيجعل رائحة الموت تلتهم كل أثر للعطور”. على مستوى الشكل تأخذ المتتالية القصصية طابع رواية الشخصيات على الرغم من هيمنة المكان وتأثيره الفادح عليها وتختلف شخصية حمادة رزق العسكري السابق عن سائر الشخصيات، فهو الوحيد الذي لم ينغلق أو ينزو، بل التحم بالخارج وبصراعاته، وعندما فاجأ الفايروس الجميع استغل إمكانياته التي أجادها من حراسته للمول في اكتشافه. بصفة عامة يمثّل نموذج المنسيين والمقهورين، من أبناء مدينة الغبار، فهو يعمل في المول كحارس، يتجاوز دوره مجرد الوقوف في وردية أمام المول، إلى مراقبة المحلات وتفتيش الزوار بنظره ، علّه يعثر على من يقومون بسرقات في غفلة من التجار، فاكتسب خبرة جعلته يكتشف أدق وأغرب السرقات التي تعجز عنها أحدث الأجهزة الإلكترونية. ومع إخلاصه في عمله إلا أنه كان أول ضحايا الفايروس بعد أن يغلق المول بسبب قرارات الإغلاق -في إشارة إلى تأثُّر هذه الطبقات بكل الإخفاقات والقرارات الخاطئة، وكذلك بغضبة الطبيعة- فلا يجد عملاً، وهنا نراه بناء على خبرته يتخيّل قدرته على الإمساك بالفايروس، فيمارس دورًا مجتمعيًّا ينمُّ عن حرص هذه الجماعة المُهمَّشة -على الرغم مما تعاني منه من شظف العيش والفاقة- على أن يكون لها دور فاعل في مجتمعها، بل محمّلة بكل الوعي كي تكون شريكًا في الأزمات لو وضعت في الاعتبار لا كما يوضعون كضحايا أو مفعول فيهم، فما إن بدأ المرضى يتساقطون حتى أحس بلحظته لحماية الحي الذي تربى فيه، وبدأ بالأقربين. تنتهي حكاية حمادة رزق بمقتله بطعنة غادرة، وهو الأكثر حماسًا للعثور والقضاء على الفايروس على الرغم مما تعرض له بسبب محاولة القضاء عليه، والغريب أنه الوحيد الذي يعرف صاحب الطعنة، في إشارة إلى أن حياته (وأمثاله من المهمشين) لا تمثّل أهمية لأحد في مدينة الغبار، ولا مماته يُحدث أثرًا، فهم دوما منسيون وعلى الهامش. الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تتحرّر من ثقل وطأة مدينة الغبار، بعد سلسلة من الإخفاقات، إلا أنها نجحت أخيرا في أن تسلك حياة جديدة بعيدة عن الوحدة والعزلة، وعن مطاردة الذباب بالزواج، هي شخصية وديع العطار الباحث في علم الحشرات، والذي كانت أبحاثه في كلية العلوم تنبئ بميلاد داروين جديد بشهادة أساتذته، لكن البحث العلمي آخر ما يشغل مدينة الغُبار. رفض العمل موظفًا تحت لافتات مراكز بحثية لا تبحث في شيء، إلى أن ابتسم له الحظ، وفاز بوظيفة في مركز بحثي ضمن فريق متخصص في الذباب.أمضى في الجزيرة 27 عامًا قضاها في معارك “استهلكت أجمل سنوات عمره” خرج منها منهكًا ومثخنًا بالجراح، رغم أنه لم يتجاوز الخمسين إلا بقليل. يشغله طنين الذبابة في شقته في ذات البناية. أزمة وديع تكمن في أنه مع دفعه لكل مدخراته في شقة ليكون إلى جوار أخيه، إلا أن أخاه بديع كان مشغولاً دائمًا، وإذا جلس معه يكون حاملاً هموم الدنيا على رأسه، حتى أنه اقترب من الهذيان، وانقسم إلى نصفين؛ نصفه حذر، والآخر خجول، وكلاهما في حالة صراع. الإيجابية الوحيدة أن علاقته بالذباب منحته فضيلة الاستغناء عن الآخرين فلم يعد يتسوّل أحدًا للكلام، وهو ما مكّنه من مقاومة العُزلة التي فرضها الفايروس، بل صار يتكلّم مع نفسه، وهذه الخاصية كانت بمثابة تطور في شخصيته، حيث واصل اندفاعه على الممرات المتشعبة، مقاومًا الإجهاد، منهمكًا مع نفسه في حوار حاد، فخلق لنفسه توهمات خاصة بالمدينة تطبعها بطابع غرائبي، كأن تقيم احتفالات لأول قاتل من أبنائها، أو حفلاً لتكريم شخصين تشاجرا، امرأة تفوهت بأول كلمة نابية في المدينة. "غربة المنازل" نص سردي محمل بالدلالات وكاشف لأزمة الإنسان الداخلية وصراعه مع الوحدة ومحبطات الحياة أما صافي الوقاد سليلة الأسرة الأرستقراطية التي تتزوج من عمر السنديوني، ويرتحلان إلى أميركا وينقطعان لمدة عشرين عامًا، يعيشان فيها حياة بائسة، يمتهنان مهنًا متعددة إلى أن يفتتحا مطعما، قبل عمر كانت لديها قصة حب مع بواب عمارتهم الرسام الأرمني فان كوبليان، الذي كان قد اتخذ القاهرة محطة له لجمع الأموال للعبور إلى روما لدراسة الفن، تأتنس بالصور القديمة وما تعكسه من ذكريات أبيها في شبابه الكاتب الذي عانى الوحدة والعزلة، إلى درجة أن الناس كانوا يتركون الرصيف الذي يمشي عليه؛ لأنهم يخشون أن يصافحوه ويستحون ألا يصافحوه، وهو ما يكشف عن دور السياسة في العزلة التي تفرض على الأشخاص أحيانًا. وتسترسل في ذكريات علاقاته المتعددة مع الأدباء كطاغور الهندي وسومرست موم، وهمنغواي، والملك وسهراته المتعددة في نادي السيارات أو على اليخت الملكي، أو في استراحة المزرعة الملكية بالضاحية، تعود إلى مدينة الغبار إلا أن المدينة تصدمها مرتين؛ الأولى بإصابتها بالفايروس، والثانية بتبديد أي أثر للعودة، بهدم المقبرة، فتحمل بواقي العظام وتقرر العودة بخيبتها عند فتح مجال السفر والطيران. أما نموذج شخصية ثابت سند رئيس الهيئة الذي يفقد سلطاته وهيبته مع حلول الوباء، فيفقد “إحساسه بأنه يسبح فوق خمسة وثلاثين طبقة من النمل الدؤوب”، هوايته المراقبة من أجل المتعة لكنها تطورت إلى وظيفة اصطياد من تسوّل لهم أنفسهم القيام بالسرقة، وهذا الاكتشاف كان بمثابة الرسالة إلى “الجميع بـأن ثابت سند مهيمن على كل شيء في الهيئة”. هو نموذج لشخصية الدكتاتور الذي يستمد قوته من شعوره بالهيمنة والسيطرة، واستغلال نقاط الضعف، ولكن ما إن يحدث الوباء حتى يشعر بضعفه، بعدما قلّ عدد الموظفين، فهو من قبل معزول في برجه ذي الستة والثلاثين طابقًا، لا أصدقاء له، ولا يسمع اسمه إلا هنا، ومن ثم وجوده مرتبط بهذا المكان وبحركة الموظفين وبالأحرى مراقبته لهم. تتراسل الشخصيات داخل الوحدات السردية المختلفة، عبر عبارات ذكرتها من قبل على نحو ما يتذكر ثابت سند عبارة “فريد عبدالمحيط” عن صراع قوى التماسك وقوى التحلل، أو حضور شخصية رامي كمستقبل لشيكات صافي الوقاد لمصاريف شقتها في العمارة، ثم يأتي حضوره القوي بعد إصابة صافي بكوفيد – 19، فيحجز لها غرفة إلى جوار غيداء، ثم في زيارتهما معا ومتابعة حالتهما، وبالمثل يحضر بديع العطار مع وحدة وديع ليس لكونه أخاه، وإنما بتوازي الوحدة بين العالميْن، إلى جانب شخصيتي سالم وطِعمة اللتيْن تترددان في الكثير من الوحدات بحكم موقعهما الوظيفي كبواب للعمارة وزوجته التي فضلها السكان عليه، وصار اسمها يتردد على ألسنتهم أكثر منه. والعمدة سعيد الطناحي نراه يتسلل إلى طعمة وزوجها، وفي المقابل تصعد هي إلى شقته، وهذا الصعود كان بمثابة التمهيد لاحتلال الشقة كلية، بعد اختفائه، فاستقرت فيها مع أبنائها على الرغم من رفض زوجها للصعود، وكأنه يخشى أن يرى أية ملامح لسعيد الذي كان يراود زوجته، وتحضر طعمة والعمدة في مراقبة حسام للعلاقة الشائنة بينهما، وهو الطالب الذي عاد من الخارج دون أبويه للالتحاق بالجامعة، فيطارد العمدة بتغريدات وبوستات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع سعيد لعمل حسابات تماشيا مع الجيل الجديد، وإن كان متخفيًّا تحت اسم مستعار “شهرزاد النائمة”. وقد يأتي الحضور عبر امتلاكها صفة من صفات الحواس كالشم تحديدًا على نحو الدكتور فريد عبدالمحيط، ووديع الذي يتتبع رائحة الكلب والمرأة، وسالم المنهك في مراقبة الأرداف، ويحدد أصحابها بناء على حجمها واهتزازها، وهناك رائحة مديرة إدارة المشتريات في هيئة ثابت سند، كان الرجال لا يأملون في أكثر من استنشاق فوحها. وتتشابه جميع الشخصيات في النهايات المفجعة باستثناء شخصيتي وديع العطار بالزواج والخروج من العزلة، وطعمة بصعودها إلى شقة سعيد. السُّخرية روابط خفية تجمع بين العوالم المتعدِّدة روابط خفية تجمع بين العوالم المتعدِّدة لا تخفى على قارئ كتابات عزت القمحاوي (المقالات والأعمال الروائية والقصصية) حالة تماهيه مع قاهرته؛ تاريخها، أماكنها، تنظيمها الإداري، طبيعة سكانها. وهذا التماهي يجعله غير راض عمّا حاق بها من تغيرات وتبدلات للأسوأ، لم تقف عند تبدل في هيراركيّة الأنظمة السياسية وطبيعة السُّكان وسلوكياتهم وعلاقاتهم المبتورة في أحد جوانبها (وديع العطار / بديع العطار) والمشوّهة في جانبها الثاني (علاقات محرمة كما رأى سالم)، والفساد الذي لحق ببنيتها وجهازها الإداري، بل شمل حتى جوها، فصارت مدينة الغبار بعد أن كانت مدينة اللذة التي تحوّل فيها كل شيء، وصار مرعبًا. ومن ثمّ تبدو الرواية (في أحد أوجهها) أشبه بمرثية أو هجائية لهذه المدينة المسخ، فلا يتردد في إظهار نقمته على الفساد الذي استشرى، بكافة صوره، أو تردي أخلاقيات سكانها، كما ينتقد قسوة المدينة بتبديدها لتراثها المعماريّ، وتنكّرها لتراث الأوروبيين في العمارة، وقد تتجلّى نقمته في سخريته من المآل الذي صارت عليه، حيث هيمنت البيروقراطية التي جعلت من وديع يقضي عمره في “مواجهاته مع الذباب انتهت بهزيمته بعد حرب استهلكت أجمل سنوات عمره”، والفساد الذي نخر جهاز الدولة؛ وهو فساد متنوّع تارة بالسرقات أو بالعلاقات الجنسيّة على نحو علاقة زوج بنت مدير مراقبة الجودة بموظفة، في أحد الممرات، والاجتماع الذي يترأسه ثابت سند يكشف عن حالة من البيروقراطية والفساد الإداري والأخلاقي الذي ينتشر في مثل هذه المؤسسة وما يوازيها من مؤسسات شاخت بسبب الوساطة والمحسوبية والرشى. زمن الحياة المتجمد الذي يعيشه أبطال الرواية/ المتتالية يستدعي زمنًا كرونولوجيًّا، وهو ما نستلمحه من الاستدعاءات المتعدِّدة التي تكشف ماضي الشخصيات وإخفاقات الحب وهناك النقمة على الانتهاكات التي تعرضت لها الأراضي الزراعية والتجريف بسبب البناء، وهدم المقابر، والتوسّع في إنشاء الكباري التي حاصرت المدينة بشبكة إسمنتيّة. كما يتعرض القمحاوي إلى سلطة السوشيال ميديا، والتي تكون أحيانًا سلطة تدافع عن الحقوق المهضومة على نحو ما حدث مع سقوط سمحة من الطابق الخامس، فانتشرت تغريدات تطالب بمحاكمة المجرم! ومقابل هذه السلطة ثمة انتقاد لغياب المصداقية على الرغم من التطور المذهل في الحصول على المعلومات، فالحادث نفسه “حادث السقوط” يكشف عبثية المواقع الإلكترونية والصحف، فالتهويل والإثارة هما الهدف، لكن البحث عن الحقيقة على نحو ما كان شعار الصحف قديما، لم يعد له وجود، بل أضحى من اللامعقول والعبث. فالحكايات التي تنشرها الصحف متناقضة، والمصداقية غائبة في الروي، فلا حكاية تتطابق مع الأخرى. وفق الراوي في جعل فضائح المدينة تظهر من منظور عين حمادة رزق، واحد من أبناء الطبقة المطحونة، كنوع من تحقيق العدالة لما يعانيه من كراهية مضمرة أو احتقار بسبب وضعيته الاجتماعية. وثمة استعارة تكشف عن تماثل طبيعة النفس البشرية التي لا تقبل رؤية نفسها عاجزة أو ضعيفة، حاضرة في الصورة التي رفضها سيد ثابت كتكريم له، فهي تتماثل مع صورة تشرشل التي رسمها له الفنان غراهام ساذرلاند، في عيد ميلاده الثمانين، وبدا فيها عجوزًا تتداعى مملكته، فرفض تشرشل الصورة، وسخر من الفنان. غربة المنازل نص محمل بالدلالات والمفارقات، كاشف لأزمة الإنسان الداخلية وصراعه مع الوحدة ومحبطات الحياة، يعوّل كثيرًا على الحب أو معجزاته في تغيير المصائر، والخروج من شرنقة الذات إلى رحابة الحياة، والاستمتاع بها، عبر لغة مقتصدة شفافة، بعيدة كل البُعد عن الإسراف اللغوي أو البلاغي دون التقليل من رصانتها وشعريتها وعذوبتها.
مشاركة :